غزة – خاص لإذاعة صوت الوطن – حنين الجاجة
فيما يعلّق سكان غزة آمالهم على الهدنة المؤقتة لإنهاء واحدة من أعنف الحروب التي شهدها القطاع، يعيش مئات الآلاف من النازحين مأساةً أخرى لا تقلّ قسوة عن الحرب نفسها. فبين أنقاض المنازل المهدّمة وغياب الدعم الإنساني، يجد الغزيون أنفسهم اليوم عالقين بين الرغبة في العودة إلى الشمال واستحالة تحقيقها، وسط أوضاع معيشية خانقة وانهيارٍ شبه كامل للبنية التحتية.
لم تُنهِ الهدنة التي طال انتظارها في قطاع غزة معاناة النازحين، بل كشفت وجهاً جديداً للأزمة. فبعد شهورٍ من النزوح القاسي من شمال القطاع إلى جنوبه، يجد عشرات الآلاف من الفلسطينيين أنفسهم اليوم عالقين بين الركام، يترقبون العودة إلى بيوتٍ لم تعد موجودة، ويكابدون عجزاً مادياً يمنعهم من المضي قدماً أو الرجوع إلى الوراء.
منذ اللحظة الأولى لإعلان وقف إطلاق النار، دوّى الفرح في خيام النزوح جنوب القطاع، غير أن ذلك الأمل سرعان ما تبدّد أمام واقعٍ اقتصادي خانق. فقد استنزفت معظم العائلات ما تبقى من مدخراتها خلال النزوح الأول، بينما توقفت المساعدات النقدية عن الوصول، وارتفعت تكاليف النقل بشكل غير مسبوق، لتغدو رحلة العودة إلى الشمال حلماً بعيد المنال.
في شوارع خان يونس ودير البلح، يتكرر المشهد ذاته: رجال ينتظرون على نواصي الطرق بلا عمل، وسائقون بلا ركاب، وأمهات يحملن أوراق التسجيل أملاً بتحويل مالي لم يصل بعد.
يقول أبو محمد (45 عاماً)، نازح من مخيم الشاطئ شمال غزة: “أعلنوا الهدنة فقلنا الحمد لله سنعود. لكن كيف أعود وليس معي ثمن لتر سولار؟ أجرة العودة للشمال تعادل قوت عائلتي لأسبوعين. الهدنة بلا مال كأنها لم تكن.”
بعض العائلات قررت العودة رغم الصعوبات، إلا أن الطريق إلى الشمال لم تكن نهاية المعاناة، بل بدايتها.
تقول أم يزن (38 عاماً)، أم لخمسة أطفال من بيت لاهيا: “رجعنا بعد الهدنة، نحمل فرحة العودة، لكن لما وصلنا ما لقينا إلا الركام. بيتنا اللي تعبنا فيه سنين صار تراباً. وقفنا نبكي، ما عرفنا وين نروح. لا مأوى، ولا دعم، ولا حتى خيمة.”
في شمال القطاع، تحولت الأحياء إلى أنقاض. المياه مقطوعة، الكهرباء شبه معدومة، والطرقات مدمرة بالكامل. أما من تمكن من العودة، فيعيش وسط الركام، في منازل بلا أسقف ولا جدران، يحاول النجاة من حرّ النهار وبرد الليل في بيئة تخلو من أدنى مقومات الحياة.
يقول إسلام (27 عاماً)، شاب فقد عمله بعد تدمير السوق الرئيسي في غزة: “كنا ننتظر الهدنة نرجع ونبدأ من جديد، بس ما في شي نبدأ منه. لا بيت ولا شغل. كثير من الناس اللي رجعت للشمال رجعت تاني للجنوب، لأن الحياة هناك مستحيلة.”
وفق تقديرات الأمم المتحدة، ما يزال أكثر من 1.7 مليون نازح يعيشون في مراكز الإيواء أو الخيام في جنوب غزة، بينما لا تتجاوز نسبة العائدين إلى الشمال 10% فقط، بفعل ارتفاع تكاليف النقل، ودمار البنية التحتية، وانعدام الخدمات الأساسية.
في ظل غياب خطة واضحة لإعادة الإعمار أو دعم عاجل للعائدين، تحوّلت الهدنة إلى اختبارٍ قاسٍ لصبر الناس. فالأمل بالعودة قائم، لكنه يصطدم بواقع الفقر، والدمار، والخذلان الدولي.
عند المساء، حين تهدأ الأصوات في المخيمات المؤقتة، تهمس الأمهات لأطفالهن بوعدٍ صغير: “سنعود إلى بيوتنا قريباً.”
لكن بين الركام والانتظار، يبدو أن طريق العودة إلى الشمال لا يزال طويلاً، وأن الحرب لم تترك وراءها مجرد دمارٍ مادي، بل جرحاً غائراً في الذاكرة الفلسطينية.
الكلمات المفتاحية: الابادة, الدمار, الركام, النزوح, النازحون الفلسطينيون, الهدنة, غزة.