كشفت ثلاثة مصادر استخباراتية إسرائيلية لموقع “سيحا مكوميت” (“محادثة محلية”) العبري أن جيش الاحتلال أنشأ، بعد 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، وحدة خاصة تُعرف باسم “خلية الشرعية”، عملت على جمع معلومات عن صحافيين في غزة يمكن تصويرهم كعناصر في حركة “حماس”، بهدف تبرير استهدافهم وتقليص الانتقادات الدولية لقتلهم.
بموجب هذه الاعترافات المسربة، سعى فريق في إدارة الاستخبارات العسكرية للحصول على معلومات تُبرر قتل الصحافيين، وقضية أنس الشريف ليست فريدة من نوعها، فمنذ بداية الحرب بحث فريق خاص عن صحافيين يمكن تقديمهم على أنهم عناصر من “حماس”، منوهًا أن ذلك لم يكن لأسباب أمنية، بل محاولةً لدعم الدعاية القائمة على مبدأ أن “الصحافي يُشوّه سمعتنا أمام العالم”.
وفي إطار محاولتها دعم الدعاية الإسرائيلية، عثرت “خلية إضفاء الشرعية” أيضًا على معلومات حول استخدام “حماس” العسكري للمدارس والمستشفيات، وعن عمليات الإطلاق الفاشلة التي شنّتها الحركة وأصابت المدنيين.
الشريف قبيل استشهاده: حملة أدرعي ليست مجرد تهديد إعلامي أو تشويه لصورتي، بل تهديد لحياتي مباشرة
ويصف أحد المصادر في تقرير “سيحا مكوميت” نمطًا من العمل يتكرر في ما يتعلق بالقضايا التي تشغل فريق الشرعية: بمجرد تزايد الانتقادات لإسرائيل في وسائل الإعلام بشأن قضية محددة، يتم تجنيد الفريق للعثور على معلومات استخباراتية يمكن “تبييضها”، أي رفع السرية عنها والسماح للدعاية الإسرائيلية بنشرها للتعامل مع الانتقادات.
وأضاف مصدر آخر أن القيادة السياسية غالبًا ما كانت تُملي على الجيش “قضية الشرعية” التي يجب التركيز عليها.
ويقول أحد المصادر، الذي انتقد هذا السلوك: “إذا كان هناك خطاب في وسائل الإعلام العالمية مفاده أننا نقتل صحافيين أبرياء، فإنهم يريدون بصراحة إظهار أن هناك صحافيًا قد لا يكون بريئًا. كما لو أن هذا يعني أن العشرين الآخرين الذين قتلناهم بخير”.
وأفادت هذه المصادر العبرية أنه في حالة واحدة على الأقل، وقعت في بداية الحرب، صنف الفريق صحافيًا على أنه عنصر في “حماس”، وكان القصد قتله وإغراق وسائل الإعلام بالمعلومات، لكنه لم يُهاجم في اللحظة الأخيرة.
ووفقًا لمصدرين، فإن الحرص على تحديد مكان صحافي يُفترض أنه عنصر في “حماس” أدى إلى تفسير المعلومات الاستخباراتية بشكل متحيز.
ويتابع المصدر: “أرادوا حقًا تصنيفه كهدف، كإرهابي، ليقولوا إنه من المقبول مهاجمته. قالوا: إنه صحافي في النهار، وقائد فصيل في الليل. كان الجميع متحمسًا للغاية. لكن كانت هناك سلسلة من الأخطاء والتقصير”. وقال أحد المصادر: “أدركوا أخيرًا أنه صحافي بالفعل”.
أين الأدلة؟
ويقول تقرير “سيحا مكوميت” إن التفسير المتحيز، أو حتى الخاطئ، للمواد الاستخباراتية لتصوير صحافي فلسطيني كهدف عسكري مشروع ليس بالأمر الغريب: يوم الأحد، قتلت إسرائيل ستة صحافيين في هجوم اعترف الجيش بأنه استهدف صحافي “الجزيرة” أنس الشريف.
الوثائق التي قدمها الجيش للادعاء بأنه ناشط في “حماس”، حتى لو كانت صحيحة، تعود إلى عام 2021 فقط، ولا تحتوي على أي دليل على نشاطه خلال الحرب.
وينوّه التقرير أنه في حالة أخرى، في أغسطس/ آب من العام الماضي، قتل جيش الاحتلال صحافي “الجزيرة” إسماعيل الغول، وادّعى بالمثل أنه عنصر في “حماس”، لكن الوثائق التي قدّمها الجيش كشفت أن الغول تلقّى رتبة عسكرية من “حماس” لأول مرة عندما كان صبيًا في الثانية عشرة من عمره، أي قبل عشر أو سبع سنوات من تجنيده المزعوم في الحركة.
ويضيف: “على أي حال، ووفقًا للمصادر، فإن جهود فريق الشرعية للعثور على صحافي يُفترض أنه عنصر في “حماس” لم تكن لأسباب أمنية على الإطلاق، بل لأسباب تتعلق بالدعاية الإسرائيلية وتشويه صورة إسرائيل”.
وأوضح المصدر: “إن الصحافي يشوه سمعتنا في العالم، وهذا مبني على أرضية عاطفية قوية: هل أنتم في العالم تُصدّقون صحافيي “حماس” هؤلاء؟ انظر هنا”.
تحذيرات دولية
ويستذكر التقرير الصحافي العبري أنه قبل شهرين من اغتيال الصحافي أنس الشريف، في يوليو/ تموز من هذا العام، أصدرت لجنة حماية الصحافيين، منظمة دولية تراقب الاعتداءات على الصحافيين، بيانًا أعربت فيه عن خشيتها على حياة الشريف.
وقالت سارة كودا، المديرة الإقليمية للمنظمة وقتها: “نشعر بقلق بالغ إزاء التهديدات التي وجهها (ضده) المتحدث العسكري أفيخاي أدرعي، وندعو المجتمع الدولي إلى حمايته”.
هذه ليست المرة الأولى التي يستهدفه فيها الجيش.
ويؤكد تقرير “سيحا مكوميت” أن هذه الادعاءات الإسرائيلية الباطلة الأخيرة تعكس محاولةً لخلق إجماعٍ على قتل الشريف.
ويضيف “سيحا مكوميت”: “قبل وقتٍ قصير من بيان لجنة حماية الصحافيين، نشر الشريف مقطع فيديو يظهر فيه وهو يبكي أثناء تغطيته للمجاعة في غزة. انتشر الفيديو على نطاقٍ واسع. بعد ذلك، نشر المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي باللغة العربية، أدرعي، ثلاثة مقاطع فيديو منفصلة تهاجم الشريف، متهمًا إياه بـ”الدعاية” والمشاركة في “حملة حماس الكاذبة حول الجوع”.
ويؤكد الموقع الإسرائيلي أيضًا أن الشريف اعتبر المنشورات تهديدًا لحياته، وقال للجنة حماية الصحافيين: “حملة أدرعي ليست مجرد تهديد إعلامي أو تشويه لصورتي، بل تهديد لحياتي مباشرة”.
وبعد شهرين، اغتاله الجيش في غارة مباشرة، ثم قدّم معلومات استخباراتية “مُزيّفة” لتبرير فعلته.
لماذا أنس الشريف؟
وفي أكتوبر/ تشرين الأول 2024، أصدر متحدث باسم جيش الاحتلال الإسرائيلي بيانًا يفيد بأن الشريف وخمسة صحافيين آخرين عملوا في قناة “الجزيرة” كانوا عناصر عسكرية تابعة لـ “حماس”. وكان الشريف قد نفى هذه المزاعم آنذاك.
في مارس/ آذار من هذا العام، اغتال الجيش حسام شبات، صحافي قناة “الجزيرة”، الذي كان مدرجًا أيضًا على القائمة منذ أكتوبر/ تشرين الأول.
ويلفت موقع “سيحا مكوميت” إلى أنه بعد قتله، ادعى الجيش أن شبات ينتمي إلى كتيبة بيت حانون التابعة لـ”حماس”، وأن الوثائق التي صادرها تُظهر خضوعه لتدريب عسكري عام 2019. وكانت هذه أيضًا مواد استخباراتية “مُزيّفة”.
ويوضح “سيحا مكوميت” أنه منذ إعلان الجيش، في أكتوبر/ تشرين الأول، انتماء الشريف إلى الجناح العسكري لـ”حماس”، كان يغطي الأحداث بانتظام وبشكل علني من مدينة غزة، ما جعل مكانه معروفًا.
وقد اعتبر الكثيرون في غزة وحول العالم أن اختيار إسرائيل اغتياله الآن، عشية الاحتلال، محاولةً لمنع تغطية هذه العملية العسكرية.
على أي حال، لم يُزعم قط أن الصحافيين الخمسة الآخرين الذين كانوا معه في الخيمة وقُتلوا معه ينتمون إلى منظمات عسكرية.
ويتابع الموقع العبري: “بدأ الشريف، البالغ من العمر 28 عامًا، العمل مع قناة “الجزيرة” مع بداية الحرب، لكنه سرعان ما أصبح أحد أشهر الصحافيين في غزة، والوحيد الذي بقي هناك طوال الحرب. ووفقًا للمكتب الصحافي الحكومي في غزة، بعد مقتل الشريف ورفاقه، ارتفع عدد الصحافيين الذين قتلتهم إسرائيل منذ بداية الحرب إلى 237.
ووفقًا للجنة حماية الصحافيين، بلغ عدد الصحافيين الذين قتلتهم إسرائيل في غزة منذ بداية الحرب 182، وهو أعلى عدد للصحافيين الذين قُتلوا في صراع عسكري واحد منذ أن بدأت المنظمة في جمع البيانات عام 1992″.
فبركة شرعية
كما ذُكر، بالإضافة إلى البحث عن صحافيين يمكن تقديمهم على أنهم عناصر من “حماس”، حاولت “خلية الشرعية” أيضًا جمع معلومات استخباراتية من شأنها إضفاء الشرعية على هجمات إسرائيل على غزة.
كان الفريق يجمع باستمرار معلومات استخباراتية لاستخدامها لأغراض دعائية،.. مثل وجود مخبأ للأسلحة في المدرسة، أو أي شيء يمكن أن يخدم الشرعية الدولية لإسرائيل لمواصلة الحرب
وقال أحد المصادر لـ”سيحا مكوميت”: “كان الفريق يجمع باستمرار معلومات استخباراتية يمكن الكشف عنها لاستخدامها لأغراض دعائية، على سبيل المثال، وجود مخبأ للأسلحة في المدرسة، أي شيء يمكن أن يخدم الشرعية الدولية لإسرائيل لمواصلة الحرب. الفكرة هي أن على إسرائيل أن تتحرك دون ضغوط، وأن دولًا مثل الولايات المتحدة لن تتوقف عن تقديم مساعدات الأسلحة”.
وطبقًا لهذا التقرير الصحافي العبري، نُقلت المعلومات التي جمعتها خلية الشرعية بانتظام إلى الأمريكيين عبر قنوات مباشرة، وأُبلغ ضباط المخابرات العاملون في الفريق بأن عملهم يُمكّن إسرائيل من إطالة أمد الحرب.
وقال المصدر إن الفريق كان يبحث أيضًا عن أدلة على مشاركة ضباط شرطة في غزة في هجوم 7 أكتوبر/ تشرين الأول، بهدف إضفاء الشرعية على الهجمات على الشرطة في غزة وتفكيكها من قبل إسرائيل.
المستشفى الأهلي
ويتابع “سيحا مكوميت”: “سُجلت حالة بارزة تورطت فيها “خلية الشرعية” بعد الهجوم على المستشفى الأهلي في غزة في 17 أكتوبر/ تشرين الأول 2023.
بينما أفادت وسائل الإعلام الدولية في البداية بمقتل 500 فلسطيني في الهجوم، بناءً على بيان صادر عن وزارة الصحة في غزة، وأن إسرائيل مسؤولة عن الهجوم، زعمت إسرائيل أن إطلاقًا فاشلًا من قِبل “الجهاد الإسلامي” تسبب في إلحاق الضرر بالمستشفى، وأن عدد الضحايا كان أقل.
في اليوم التالي لهجوم المستشفى، نشر المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي مكالمة هاتفية عثر عليها فريق الشرعية ضمن المواد الاستخباراتية. قُدّم التسجيل على أنه محادثة بين عنصرين من “حماس”، قالا فيها إن إطلاقًا فاشلًا من قِبل “الجهاد الإسلامي” تسبب في الهجوم المميت على المستشفى.
انضم نشر هذه المحادثة إلى نتائج أخرى دفعت وسائل إعلام مختلفة حول العالم، وحتى منظمات حقوق الإنسان، إلى الادعاء بأن إطلاقًا فاشلًا تسبب في مقتل الجندي، رغم أن وسائل إعلام أخرى استمرت في الادعاء بعدم وجود دليل قاطع على الجهة المسؤولة عن الهجوم؛ المنظمات الفلسطينية أم الجيش الإسرائيلي.
على أي حال، أضرّ الحادث بشدة بمصداقية وزارة الصحة في غزة، حيث اتضح أن عدد القتلى أقل بكثير مما أُعلن عنه في البداية.
اعتُبرت هذه الخطوة برمتها نجاحًا للدعاية الإسرائيلية والشرعية.
مع ذلك، كشف ناشط فلسطيني في مجال حقوق الإنسان، لم يكن عضوًا في “حماس” قط، وكانت المنظمة التي عمل بها تُعتبر ناقدة لها، لموقع “سيحا مكوميت” في ديسمبر/ كانون الأول 2023، أنه فوجئ بسماع صوته في محادثة نشرها متحدث باسم الجيش الإسرائيلي.
قال: “كنت أسكن بالقرب من المستشفى، والمحادثة المسجلة كانت محادثة عادية مع صديق فلسطيني آخر”.
ساحة معركة
وتؤكد المصادر الثلاثة أن الجيش الإسرائيلي تعامل مع الخطاب الإعلامي كساحة معركة، وبالتالي سمح لنفسه بـ”تبييض” مواد استخباراتية حساسة ونشرها، كما طُلب من أفراد المخابرات خارج “خلية الشرعية” الانتباه إذا عثروا على مواد قد تساعد إسرائيل في وسائل الإعلام.
في هذا المضمار، قال مصدر استخباراتي: “سنستخدم مصطلح “هذا جيد للشرعية”، دون أن نعرف بالضبط ما يعنيه ذلك، سعيًا لجمع أكبر قدر ممكن من الأدلة التي يمكن أن تستخدمها الدعاية الإسرائيلية”.
وقال متحدث باسم جيش الاحتلال الإسرائيلي، ردًا على التقرير، إن الجيش يوجه هجماته ضد أهداف عسكرية وعناصر إرهابية، كجزء من حملته المستمرة لتفكيك قدرات حماس”.
الكلمات المفتاحية: استهداف, حماس, الإبادة, الشريف, وطن, الصحافيين, الجماعية في, غزة.