شهقت أعين الكثير من سكان قطاع غزة إلى السماء، تنظر بين الحين والآخر إنزالات مساعدات من الجو، رغم خطورتها، فيما انهمك آخرون في متابعة الأخبار الخاصة بدخول المساعدات بشكل يأمل السكان أن يكون أكثر فعالية، ينهي مأساة الجوع التي فتكت بالسكان وقتلت العشرات منهم.
فبالرغم من الخطورة الكبيرة لإدخال المساعدات الإنسانية لغزة، وفقا للخطة التي أعلن عنها جيش الاحتلال الإسرائيلي مؤخرا، إلا أن الجوع لم يترك مجالا لسكان قطاع غزة، سوى الانتظار والترقب، علهم يعودون لأسرهم بما يسد جوعها.
ففي العملية الأولى التي جربت في فترات الحرب السابقة، وعادت إليها قوات الاحتلال من جديد منذ يوم السبت، وهي الإنزال الجوي، يكون الأمر محفوفا بالمخاطر الكبيرة، فكثيرا ما سقطت مظلات تحمل مساعدات فوق خيام النازحين، وعلى منازل متهالكة، فقتلت الكثير منهم، بعد أن دمرت أماكن سكنهم، فيما دبت خلافات كبيرة بين السكان المجوعين، وهم يتصارعون للحصول على ما نزل من السماء.
أما الثانية، وهي إيصال المساعدات إلى مناطق محددة، بعد دخولها من معابر إسرائيلية، فهي لا تقل خطورة عن سابقتها، فقرب مناطق وصول المساعدات ينتشر جيش الاحتلال الإسرائيلي الذي يستهدف المجوعين عمدا بالرصاص الحي والقذائف المدفعية، وهي عملية لا تخلو من المشاحنات والصدامات بين المجوعين، الذين يخلق جوعهم كثيرا من المشاحنات الحادة.
خطر الإنزال الجوي
وقد ظهر ذلك جليا خلال الإنزال الجوي الأول ليل السبت، حيث سجلت فيديوهات التقطتها هواتف نقالة، حيث تصارع المجوعين من أجل الظفر بكميات قليلة من المعلبات أو الدقيق الذي نزل عبر المظلات، ما أدى إلى وقوع إصابات، كما سجل الأحد إصابات أخرى في صفوف المواطنين جراء سقوط عدد من مظلات الإنزال الجوي على خيام النازحين في المنطقة الشمالية الغربية لمدينة غزة.
لكن رغم كل هذه المخاطر، وقف إبراهيم فرج الله من مخيم النصيرات وسط قطاع غزة، يترقب أخبار المساعدات ويرقب السماء بعينيه عله يرى طائرات شحن من تلك المخصصة لإلقاء الغذاء، ويقول “فورا بدي أركض لمكان إسقاطها، بيتنا كله جائع، لا أكل ولا طحين”، ويعرف هذا الرجل الأربعيني خطورة الإنزال الجوي وما يصاحبه من مشاكل، لكنه يقول “ما بقي أي مجال، شو أعمل أهل البيت بدهم أكل”.
ويشير هذا الرجل إلى أن هناك من جيرانه ذهبوا إلى مناطق أخرى يعتقد أن تمر منها قوافل المساعدات، بعد أن شاهدوا صورا للشاحنات التي تقف على المعابر تنتظر الدخول، فيما ذهب آخرون إلى مراكز التوزيع التي تديرها الشركة الأمريكية، رغم المخاطرة الجديدة، بسبب ضيق الحال وشح الطعام.
وتزداد خطورة الإنزال الجوي في هذا الوقت أكثر من أي وقت مضى، بسبب الإخلاءات التي فرضتها قوات الاحتلال، بتهجيرها قسرا غالبية سكان القطاع، حيث تقول المنظمات الأممية إن أوامر الإخلاء اشتملت على أكثر من 85% من مساحة القطاع، ما يعني أن إلقاء المساعدات سيكون على تلك المناطق المتبقية، والتي تتكدس فيها خيام النازحين، ورغم شغفها للحصول على تلك المساعدات، إلا أن النازحة سمر جبر، تخشى أن يدمر الإنزال خيمتها ويصيب أسرتها بضرر.
وتشير هذه السيدة التي تعيل أطفالا، وتقطن مع والدي زوجها المسنين في خيمة واحدة، أن الأوضاع المعيشية بسبب قلة الطعام وصلت إلى حد لا يتوقعه البشر، فهي كغيرها تمضي يومين بدون أن تتناول أي طعام، سوى الماء، وتضطر لتخصيص الكميات القليلة التي تستطيع تدبيرها لإطعام أطفالها ومن ثم والدي زوجها كبيري السن، اللذين يعانيان من أمراض مزمنة.
وتأمل تلك السيدة التي يلازم زوجها والديه في الخيمة، ولا يستطيع التوجه لمراكز التوزيع الأمريكية خشية على حياته، أن يسار إلى تطبيق خطط التوزيع السابقة للمساعدات، من خلال تحديد نقاط واضحة تتبع المنظمات الأممية والإغاثية المحلية، يجري من خلالها حصول الأسر حسب كشوفات بالحصول على كميات وفيرة من الدقيق والمعلبات، وقالت “بدون ذلك سيحصل ناس على مساعدات وآخرين مثلنا يراقبون المشهد من بعيد”، مشيرة إلى أن هناك في منطقة نزوحها أسر تعيلها نساء فقدن أزواجهن في الحرب، ولا يستطعن المزاحمة في نقاط التوزيع.
كميات غير كافية
وبالعادة تحمل الإنزالات الجوية كميات قليلة من الطعام، فالطائرات لا تستطيع حمل الكميات اللازمة لسد الجوع، وتحمل مخاطر كبيرة، وعلاوة على مخاطر سقوطها فوق المناطق المكتظة بالسكان أو فوق خيام النازحين، فهناك مخاوف من أن تسقط في مناطق مخلاة أو خاضعة للتوغل البري لجيش الاحتلال، أو في البحر.
وكان الجيش الإسرائيلي، أعلن عن استئناف عمليات إسقاط المساعدات جواً على غزة، كما أعلن عن إنشاء ممرات إنسانية لضمان النقل الآمن لقوافل الأمم المتحدة المحملة بالطعام والأدوية، بعد أن سمح لعدة دول بعمليات الإنزال الجوي، وزعم أنه سيسهل مرور القوافل الإنسانية لغزة، وسيقوم بـ”تعليق تكتيكي” يوميا للعمليات العسكرية بمناطق عدة في قطاع غزة لأغراض إنسانية، وقال جيش الاحتلال إنه سيوقف أنشطته في مناطق المواصي ودير البلح ومدينة غزة، وذلك من الساعة العاشرة صباحا حتى الثامنة مساء بالتوقيت المحلي.
لكن لا تعرف الطريقة التي ستوزع فيها المساعدات في حال وصلت إلى القطاع، كما لا يعرف شكل ومكان الممرات الإنسانية ولا مناطق الهدن وكيفية تطبيق هذه الخطة، وسط مخاوف بأن تكون “أفخاخ جديدة للموت”.
وتعرضت إسرائيل خلال الفترة الأخيرة لانتقادات دولية حادة بعد تزايد عدد الغزيين الذين قضوا بسبب الجوع، خاصة بعد الصور التي أظهرت حالة جثامين ضحايا الجوع وغالبيتهم من الأطفال، في الوقت الذي كانت فيه أعداد المجوعين والمصابين بأمراض سوء التغذية يتزايد يوميا، بسبب الحصار المشدد الذي فرضته سلطات الاحتلال على السكان منذ الثاني من مارس الماضي.
ويؤكد المكتب الإعلامي الحكومي حاجة قطاع غزة يوميًا 600 شاحنة إغاثية تشمل حليب الأطفال والمساعدات الإنسانية والوقود، لتلبية الحد الأدنى من احتياجات السكان، وجاء في بيان أصدره “رغم تداول أرقام عن نية إدخال عشرات الشاحنات، فإن هذه الخطوة- إن نُفذت- تبقى محدودة ولا تكفي لكسر المجاعة”، مؤكدا أن قطاع غزة يواجه “كارثة إنسانية حقيقية، مع استمرار الحصار الخانق وإغلاق المعابر ومنع تدفق المساعدات وحليب الأطفال منذ 148 يومًا”.
وبسبب الحصار وقلة المساعدات، باتت هناك آلاف الأسر في غزة تمضي أياما بلا طعام، ويظهر ذلك جليا على أجساد السكان الذين فقدوا الكثير من أوزانهم، وسبق أن أعلنت وزارة الصحة أن حالات إعياء كثيرة ترد المشافي بسبب سوء التغذية، دون أن تتمكن الطواقم الطبية التي تعاني هي الأخرى من ذات المشكلة من علاجها، وتقول منظمة أطباء بلا حدود، في تقرير جديد إن واحدًا من بين كل أربعة أطفال ونساء حوامل يعانون من سوء التغذية، مع استمرار سياسة التجويع الإسرائيلية، وتوضح بأن الفحوصات الأولية في مرافقنا بغزة أظهرت الأسبوع الماضي أن 25% من الأطفال والنساء الحوامل الذين خضعوا للفحص يعانون من سوء التغذية، وقالت منتقدة إن ما يحدث في غزة هو تجويع متعمد صنعته السلطات الإسرائيلية.
طريقة غير فعالة
وسيحتاج الحكم على القرار الإسرائيلي الجديد بإدخال المساعدات وقتا حتى يحكم على فعاليته، غير أن المفوض العام لوكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين “الأونروا” فيليب لازاريني، قال إن إسقاط المساعدات على قطاع غزة عبر الجو “مجرد تشتيت للانتباه ودخان للتغطية على حقيقة الكارثة الإنسانية في القطاع”.
تشكيك دولي وحقوقي بجدوى خطة المساعدات الإسرائيلية التي تحمل أخطارا كبيرة
وأضاف المسؤول الدولي في تغريدة على منصة “إكس”، “الإمدادات الجوية لن تعكس واقع الجوع المتفاقم فهي مكلفة وغير فعالة، بل قد تودي بحياة مدنيين جائعين”، وأكد أن إدخال المساعدات عبر البر “أسهل وأسرع وأرخص، وأكثر فعالية وأمانا وكرامة لأهالي غزة”، مؤكدا أن “الجوع المصنوع بأيدي البشر لا يعالج إلا بالإرادة السياسية”، وطالب برفع الحصار عن غزة، وفتح المعابر.
وفي هذا السياق، وصف المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان، إنزال المساعدات عبر الجو، بأنه “حلقة إضافية في إذلال الفلسطينيين وامتهان كرامتهم”، واعتبر أنه يحمل مخاطر جسيمة على حياة المدنيين في ظل تكدّسهم في أقل من 15% من مساحة القطاع، وقال “الأخطر أنه يُوظَّف للاستمرار في سياسة التجويع الجماعي التي تنتهجها إسرائيل عمدًا كأداة من أدوات الإبادة الجماعية”، وأشار إلى أن الأوضاع الميدانية الكارثية تعكس فداحة جريمة التجويع التي تفرضها إسرائيل، خاصة بعد أن سُجّلت عشرات الوفيات نتيجة التجويع وسوء التغذية خلال أسبوع، فضلًا عن تقديرات بوفاة نحو 1200 مسن خلال الشهرين الماضيين بسبب الحرمان من الغذاء والعلاج.
وقالت حركة “حماس” إن لجوء الاحتلال إلى إنزال بعض من المساعدات جوا، “ليس إلاّ خطوة شكلية ومخادعة لذر الرماد في العيون، تهدف إلى تبييض صورته أمام العالم، ومحاولة للالتفاف على حقوق الشعب الفلسطيني برفع الحصار”، وأكدت أن خطة الإنزال الجوي والتحكم بما يُسمّى بالممرات الإنسانية، تمثّل “سياسة مكشوفة لإدارة التجويع، لا لإنهائه”.
الكلمات المفتاحية: غزة, فلسطين, مساعدات, مجاعة, دولية, براطانيه.