غزة- إذاعة صوت الوطن/ تقرير نعمة بصلة
يشهد قطاع غزة فصولاً مأساوية من تاريخ طويل من الحروب والمعاناة، حيث لا يميز الاحتلال الإسرائيلي بين الحجر والبشر في حملاته المستمرة للإبادة والتطهير العرقي.
في خضم هذا الواقع المرير الذي يمحو كل مقومات الحياة من تعليم وصحة وأمل، قد يبدو الحديث عن الرياضة رفاهية غير مبررة. ومع ذلك، تبقى الرياضة، بكل ما تمثله من أمل وطموح شاهداً على معاناة إنسانية متشابكة تتجاوز الملاعب إلى تفاصيل الحياة اليومية.
هذا التقرير يسلط الضوء على وجوه رياضية في غزة، كابتلاءاتها ومعاناتها، من خلال قصص فردية تحمل في طياتها معاني الصمود والإصرار على البقاء. بين لاعب كرة القدم شادي بصلة ومدربة الفتيات ألاء العمور، تظهر قصص شخصية تعكس بشاعة الحرب التي تسرق الأمن والأحلام، لكنها في ذات الوقت تكشف عن إرادة قوية في وجه الحصار والجراح.
الأثر المدمر للحرب
من خلال شهاداتهم وتجاربهم، نسلط الضوء على الأثر المدمر الذي تتركه الحرب ليس فقط على حياة الأفراد، ولكن أيضاً على النسيج الرياضي الذي يمثل جزءاً من هوية الفلسطينيين.
«شادي بصلة» لاعب كرة القدم يبلغ من العمر (٣٤) عاماً، أب لثلاث أبناء، فقد عانى آلام الحرب منذ اللحظة الأولى، حيث هدم الاحتلال مكان عمله الرياضي الذي كان يوفر قوته وقوت عائلته ؛ فلم يعد قادراً على توفير أقل الأساسيات الحياتية لعائلته ولا لأبناءه.
قال بصلة: «منذ السابع من أكتوبر ٢٠٢٣ ومنذ قيام الحرب وبعد إعلان الاحتلال أن منطقة غزة وشمالها منطقة قتال خطرة، عن طريق إلقاء المناشير وقيامه بالأحزمة النارية وقصفه المتواصل وإلقاءه القنابل الدخانية، فقد قررت المحافظة على عائلتي والالتزام بمنزلي المحاذي لأطراف مدينة جباليا ومعايشة الواقع دون تركه والنزوح منه».
وأضاف بصلة: «جاءت الحرب وقد أصبح الطعام غير متوفر وانقطعت الكهرباء والماء فأصبحنا نعافر للحصول على قطرات الماء النظيف بعد الوقوف في طوابير طويلة أمام عربة الماء الحلوة. فقد أصبحنا نقف أحيانا نهاراً كاملاً ، ونقف على طابور المخبز أملاً في الحصول على ربطة خبز واحدة نسد بها رمق العائلة».
وتابع حديثه قائلاً «خوفًا من الإهانة والنزوح وأملًا في صون كرامتنا قررنا البقاء في مدينتنا وعدم النزوح، ولكن الاحتلال مارس بحقنا انتقاماً جماعياً لا وصف له، في يوم كنا جالسين بالمنزل نحن وأقاربي الذين نزحوا إلينا بعد أن قصف الاحتلال منزلهم، وبعد صلاة العشاء وسط أصوات القصف المتكرر فقد رمى على حينا الشيخ رضوان العديد من القنابل الدخانية التي كادت أن تشعر والدتي بالاختناق منها، فوالدتي كبيرة بالسن ومريضة وكان يصعب وجود الإسعافات للذهاب بها للمستشفى، فقد كانت عناية الرحمن متواجدة بيننا وخرجت أمي من الوعكة بألف سلام».
وأوضح بصلة، «كنت قد استيقظت لصلاة الفجر بتاريخ 24 ديسمبر 2023، فقد كان صوت آليات الاحتلال عالياً فقد قررت الوقوف على الشباك للتركيز بصوتها، فإذا بها على مقربة منا، فقد قررت أنا وشباب الحي الخروج من المكان بسرعة قاتلة قبل أن يمارس بطشه وتعتقل باقي شباب الحارة كما فعل بالأحياء الأخرى».
وقال بصلة «خرجت من منزلي تاركاً عائلتي ومنزلي الأكثر دفئاً وأماناً ولكني كنت مضطراً لتركه وذهبت حيث المجهول، خرجنا نسير بسرعة ونمشي هرولة تحت تغطية السماء بطيران الاحتلال المختلف الأنواع من «الكواد كابتر» المخيفة وطائرة الاستطلاع المميتة».
كل شيء جميل اختفى
كما أضاف « استمرينا أكثر من أسبوع ننام على الأرصفة دون فراش ودون أغطية تدفئنا من برد الشتاء القارس ومن بطش عدوان لا نعرف مصيرنا من بعده، وبعد تأكدنا من أن جيش الإحتلال الإسرائيلي قد انسحب من منطقة أبو اسكندر شمال مدينة غزة قررت الذهاب إلى بيتي الذي دمره الاحتلال جزئياً بعد أن تمركز ساعات اسفله، ولم شملي بعائلتي والإطمئنان عليهم».
ونوه بصلة إلى أنه «في هذه المدة قد اختفى كل شيء جميل بدونهم! وبعد أن رأيت الضحكات في أعين أطفالي قررت ألا اتركهم مرة أخرى ولو وصلت بنا الحياة لنموت سوياً».
وبمشاعر يكتسيها الألم والمشاعر المتخبطة، قال بصلة: «بعد أن استقرينا بمنزلنا وتصليح نوافذه المدمرة وتغطيتها بقطعة قماش تقينا من برد هذه الأيام؛ فقد قامت قوات الاحتلال مجدداً برمي مناشيرها السامة التي طالبت الحي بالمغادرة، فحزمنا أمتعتنا وأمتعة أطفالي ووالدتي التي بالكاد تسير وذهبنا إلى مراكز الإيواء التي كان من الصعب العيش بها، حيث لا مكان ولا ماء متوفر ولا طعام، فقررنا بعد أسبوع العودة إلى المنزل في مكانه الخطر، ولكن رغم قسوته أفضل من الجلوس بمكان يملؤه الأمراض وانعدام النظافة، خاصة وأنا معي أطفال لم تتجاوز أعمارهم ال١٠ سنوات ووالدتي الكبيرة في السن».
و عند سؤاله عن حياته الرياضية وكيف أثرت الحرب عليها؛ تنهد وملئ صدره الهواء المتثاقل.
تدمير الصالات الرياضية
استرجع ذاكرته ورسم على شفتيه ابتسامة خافتة مليئة بالشوق والحب لماضيه الذي قتله الاحتلال، وقال «أنا أمارس كرة القدم منذ الطفولة وقد أصبح لي قرابة 20 عاماً، فأنا أحفظ ملاعب غزة الكروية شبراً شبراً من شمالها لجنوبها ومن شرقها لغربها، ولكن غطرسة الاحتلال لم تبقِ لنا شيئاً، فقد حوّل الصالات الرياضية والمستطيل الاخضر إلى أماكن دون أثر وبعضها حوّلها النازحين إلى مراكز إيواء بعد أن دمر الاحتلال منازلهم الذي طالبهم بالخروج منها تحت التهديد».
وأوضح بصلة قائلاً : «أنا كنت التحق بالأندية الكروية مقابل المال الذي يوفر لعائلتي احتياجاتهم الخاصة وطعامهم وأطفالي حياتهم المدرسة والتعليمية ولكن جاءت الحرب وعدمت كل شي فأصبح كل شيء كأنه لم يكن».
وقد كان اللاعب شادي بصلة قد التحق بعدة أندية مختلفة وكان من أحد اللاعبين الأساسيين في صناعة الألعاب داخل الملاعب الكروية؛ وكان من هذه الأندية نادي شباب جباليا ونادي خدمات النصيرات ونادي بيت لاهيا ونادي خدمات جباليا ونادي الرضوان ونادي الهلال ونادي الزيتون وكان آخرهم نادي نماء الرياضي الذي لم يكتمل بسبب الحرب الذي دمرت مركزه، في مختلف الدرجات للأندية الممتازة والأولى والثانية.
وقد انهى بصلة حديثه، أنه «منذ سنة و٣ أشهر وهو يبذل قصارى جهده بتوفير أقل إمكانيات الحياة وهو يبحث عن الحطب بديل الغاز الذي منعه الاحتلال عن شمال غزة وعن توفير الطعام الذي بالكاد نستطيع توفيره بعد غلاءه في الأسواق وأنه ما زال لا يعرف ما هو مصيرنا مع هذه الحرب الشنيعة».
وفي نفس الدائرة تحدثت المدربة ألاء سالم العمور (٣٠) عاماً عن تأثير الحرب على حياتها الكروية. حيث قالت: «منذ السابع من أكتوبر في العام السابق توقفت أحلامنا وآمالنا ولم تعد الحياة طبيعية كما كانت!».
بدأت مدربة كرة القدم للفتيات ألاء العمور تتحدث بحسرة وحزن متملكها عن عالمها الرياضي قبل الحرب.
أنشأت العمور داخل عائلة كروية بإمتياز فهي خُلق حب كرة القدم معها منذ نعومة أظافرها وكونها تعيش في عائلة كروية ساعدها ذلك في تخطي كل التحديات التي كانت تلاحق الفتاة ضمن العادات والتقاليد في المجتمع الغزي كونه مجتمعاً محافظاً .
الانجازات الرياضية
أشارت العمور إلى انجازاتها الكروية بعيون لامعة في تحقيق بعضاً من أحلامها الكروية، قائلة «قبل الحرب عملت في المجال الرياضي بشكل عام وفي تدريب الفتيات لكرة القدم بشكل خاص، فأصبحت مدربة فريق فتيات كرة القدم في نادي المشتل وأيضاً مدربة في فريق خطوات لكرة القدم».
وأضافت أنها، «حققت العديد من الإنجازات الكروية على مستوى قطاع غزة وفلسطين، فقد برز أسمها في تحقيق انتصارات فريقها بكرة القدم في بطولة طوكيو (١،٢) للفتيات على مستوى أندية قطاع غزة، وأيضاً بطولة خطوات (1،2) على مستوى فلسطين».
عادت بها الذاكرة لأيامها الجميلة في رحلتها الكروية وقالت: «سافرت خارج القطاع مع فريقي الرياضي في نادي المشتل ومثلنا دولة فلسطين في الخارج وشاركنا في البطولات الخارجية في الدنمارك والنرويج».
وتابعت، «تجربتي في هذه البطولة كانت قد أضافت إليّ العديد من المعلومات والمهارات والثقافات، حيث تم الاحتكاك مع مدربين لهم نظرة واسعة في عالم كرة القدم».
توقفت للحظة وبدأت الدموع تنهمر من عيونها وانطفأت نظرة التفاؤل، عندما سألتها عن معاناتها مع الحرب الظالمة التي وقعت علينا في قطاع غزة.
خرائط الاخلاء
حيث بدأت تسرد لي ما حدث معها خاصة وأن والدتها لم تكن معها بل كانت خارج البلاد في رحلة علاجية، وأكملت أنه «بدأت الحرب وبدا الخوف يتسلل داخل المنزل والمنطقة حيث نسكن في تل الهوا فقد جعل الاحتلال كل شي مباح، فقد قررت أنا وأخي وأبناء أختي التي كانت في منطقة عملها في البلد المجاورة للنزوح إلى منطقة الجنوب (جنوب مدينة غزة) حيث رسمها الاحتلال أنها مكاناً آمناً ولمن في قطاع غزة لا يوجد أمن ولا أمان».
«بدأ الاحتلال ينشر خرائط الإخلاء وحفاظاً على حياتنا، نزحنا دون والدي الذي بقي بالمنزل مثبتًا فيه، ولكن الدبابات والآليات رفضت أن يكون أحدًا في المنطقة، فجاء إلينا بعد أسبوع وقد نزحت ثلاث مرات مختلفة إلى أن استقر الوضع في بيت أهل عائلة أمي»، كما أوضحت العمور.
وفي ختام حديثها قالت العمور: «كان لدينا أحلاماً وطموحات في كرة القدم ولكن بعد مجيء الحرب والذي دمرت المكان المفضل لدي وهو نادي المشتل الذي وضعت فيه كل طاقتي الرياضية، وسلبت الأمن والأمان من حياتنا، حيث أصبح لا مكان جيد ومطمئن، فإننا لسنا قادرين على توفير المساحة لممارسة الرياضة في ظل هذه الظروف السيئة والمميتة».
وبحسب إحصائية الاتحاد الفلسطيني لكرة القدم للانتهاكات الإسرائيلية بحق الرياضة الفلسطينية، فقد خلفت 400 شهيد في كرة القدم ودمرت 273 منشأة رياضية داخل قطاع غزة.
يبقى القطاع الرياضي في غزة شاهدًا على معاناة إنسانية عميقة. قصص شادي وألاء ليست سوى أمثلة قليلة على حجم الدمار الذي خلفته الحرب. وبينما تتراكم المآسي، يظل الفلسطينيون متمسكين بأمل يعاند كل الظروف، وحلم بأن تعود الحياة إلى طبيعتها يومًا ما، ولو كان هذا الحلم بعيد المنال.
الكلمات المفتاحية: غزة, الصالات الرياضية, البقاء, الرياضيون.