غزة– خاص إذاعة صوت الوطن –أنسام القطاع
في غزة، لم يعد البحث عن رغيف خبز مسألة يومية بسيطة، بل تحوّل إلى رحلة إنهاك طويلة يعيشها الناس منذ بدء الحرب. فبين العجن اليدوي، وشحّ الحطب، وتكاليفه الباهظة، انتظرت العائلات عودة المخابز بوصفها خشبة الخلاص التي ستنهي شهورًا من التعب والجوع. لكن ما إن فُتحت أبوابها حتى صُدمت الأسر من واقع جديد لا يقل قسوة عمّا سبق: خبز رديء، معجّن، رطب، يفسد خلال ساعات، ونقاط توزيع قليلة لا تكفي للجميع.
في الوقت الذي يفترض فيه أن يكون الدعم الغذائي طوق نجاة، يجد المواطن نفسه أمام رغيف لا يراعي الحد الأدنى من المعايير الصحية، ويشعر بأن كرامته تُمسّ مع كل محاولة للحصول عليه. من الأزقة إلى مراكز التوزيع المؤقتة، تتشابه الشكاوى: الخبز لا يصلح للأكل، الكميات لا تكفي، والجودة تزداد سوءًا رغم معاناة الناس واحتياجاتهم المتزايدة.
جلال عرفات يصف اللحظة التي انتظر فيها الناس إعادة فتح المخابز بأنها كانت «على أحرّ من الجمر»، بعدما أثقلهم تعب العجن اليدوي وشحّ الحطب الذي أنهكهم ماديًا وجسديًا. يقول لإذاعة «صوت الوطن»: «كنا مستنين تفتح المخابز، وكان الكلام إنها هتشتغل بطريقة جديدة تحترم آدمية الإنسان وتخلصنا من الزحمة والتدافع اللي كنا نعاني منه عشان ربطة خبز.»
لكن فرحته لم تكتمل. فبعد افتتاح نقاط التوزيع، تفاجأ جلال برداءة الخبز الذي يشتريه. يوضح: «بنشتري الربطة الساعة 8 الصبح، وبالليل بنلاقيها معفنة. السبب إنهم ما بيلتزموا بالطرق الصحية، والرغيف ما بياخد حقه في الاستواء، بيكون معجّن. بدهم يوفروا النار، بدل ما يخبزوا ألف رغيف بالساعة، بيخبزوا الضعف على حساب المواطن الغلبان.»
ويشير إلى أن هذا الخبز «يسبّب أمراضًا» قد تضطر العائلات لشراء أدوية لا تقدر على ثمنها. ويضيف بحزن: «مش أنا لحالي… كل الجيران وأهل الحارة بيعانوا. إحنا مضطرين نشتريه بسبب وضعنا المادي الصعب.»
ويؤكد أن جودة الخبز المدعوم لا تُقارن بالكعك والفينو المصنوعين بالمخابز بجودة عالية. ويختم: «الناس بحاجة خبز محترم، كفاية اللي مرّ علينا خلال عامين من الإبادة.»
يقول محمد عطا، وهو أب لخمسة أطفال في شمال غزة، إن الخبز المدعوم الذي يحصلون عليه يوميًا «سيئ جدًا»، لكنه لا يملك خيارًا آخر. يوضح في حديث لإذاعتنا: «إحنا مضطرين ناكله، مش لأنه جيد، لكن لأنه ما معنا نشتري حطب. الحطب صار مكلف بشكل كبير، وأنا أستسهل أخذ الخبز الجاهز حتى أوفّر تكلفة صنعه يدويًا.»
ورغم اضطراره للاعتماد على هذا الخبز، يرى محمد أن جودته «سيئة وفيها إهانة لآدميتنا»، كما يقول.
وتزيد المعاناة مع قلة نقاط البيع، إذ لا يكفي عددها لتلبية احتياجات الناس. يضيف محمد: «كثير مرات بنروح من الصبح بدري وما بنلاقي خبز، وبالليل كمان نفس الشي. لازم يكون في وفرة، لازم كل مواطن يقدر يحصل على خبزه بدون ما يروح ويرجع فاضي.»
تقول مي ماهر، أم لأربعة أطفال، إنها مثل كل امرأة في غزة عانت طويلًا من نقص الخبز والطحين خلال الشهور الماضية. تصف في حديثها لإذاعة «صوت الوطن» عودة المخابز إلى العمل بأنها كانت بمثابة «الحلم» الذي سيُنهي تعب العجين اليومي وما يتطلبه من وقت وجهد مرهق.
لكن مي فوجئت بأن المعاناة لم تنتهِ، بل تغيّر شكلها. تقول: «كنا مفكرين إنه رجوع المخابز حيريّحنا… بس الخبز اللي بنشتريه بيطلع معجّن، ومبلول من كتر ما بيكدسوا الربطات فوق بعض. بنفتح الربطة نلاقي الرغيف لازق، وما بيمسك حاله.»
وتشير مي إلى صعوبة الحصول على الخبز رغم طوابير الانتظار الطويلة، إذ تصبح الكمية المتاحة شحيحة بسبب استحواذ المؤسسات والجمعيات على جزء كبير منها.
تضيف: «الجمعيات بتاخد خبز بكميات، وإحنا ما بيوصلنا شي… بنرجع كثير مرات بدون خبز لأولادنا.»
تختم مي بحزن أن النساء في غزة ما زلنا يكافحن فقط لتأمين رغيف نظيف وصالح للأكل لأطفالهن.
في غزة، لم تعد أزمة الخبز أزمة غذاء فقط، بل تحوّلت إلى مرآة تعكس عمق الألم الذي يعيشه الناس كل يوم. فرغيف الخبز الذي كان يومًا رمزًا للبساطة والأمان، بات اليوم شاهدًا على معركة يومية تخوضها العائلات بين طوابير طويلة وجودة متردية وقلّة حيلة لا تنتهي.
ومع كل شهادة يرويها الأهالي ، يبدو واضحًا أن المعاناة لا تتعلق بوجبة تسدّ الجوع فحسب، بل بكرامة تُستنزف، وأمهات وآباء يحاربون كي لا يعود أطفالهم إلى النوم جائعين.
الكلمات المفتاحية: الأفران, شح الغذاء, غزة, الخبز, طوابير, إذاعة صوت الوطن, أنسام القطاع, رداءة.