غزة– إذاعة صوت الوطن – تقرير جنين الوادية
“لم أتخيل يومًا أن تموت أمي بسبب الجوع! لم أتخيل يومًا أن أفقدها بعد أبي للسبب ذاته: توفير لقمة تسدّ جوعنا”.. هكذا بدأت مأساة ملاك الشيخ عيد (21 عامًا)، التي وجدت نفسها على بُعد كيلومترات من مستشفى ناصر، تحاول أن تتماسك وهي ترعى إخوتها الستة بعد أن فقدوا أمهم وأباهم، في حربٍ لم تُبقِ لهم سوى خيمةٍ صغيرة وذاكرةٍ مثقلةٍ بالوجع.
في خيمةٍ على أطراف مواصي خانيونس، كانت أمٌّ تقاوم العجز لتُطعم أبناءها الأيتام، بعدما اختطف القصف زوجها وتركها وحيدة في وجه الجوع والحرب. بحثت عن لقمةٍ تُبقي صغارها على قيد الحياة، فخرجت تحمل أملًا ضئيلًا ووجعًا كبيرًا، لكن رصاص الاحتلال الإسرائيلي كان أسرع من رغيف الخبز، فاختطفها من أطفالها أيضًا.
سمعت الأم واسمها ماريا شيخ العيد في الأربعينيات من عمرها، أن هناك مساعدات أمريكية تُوزَّع في يوم مخصص للنساء، قيل لها إن لا خطر في المكان. حاول أطفالها منعها، لكنها قالت “لن أذهب إلى مركز المساعدات، بل لمكان آخر قريب، وانطلقت”.

في التفاصيل، تخبرنا ابنتها ملاك أنه يوم 24 يوليو/تموز 2025، غابت أمها عن المنزل باكرًا، خرجت ولم تعد، حتى الساعة الثالثة عصرًا، كان جرس هاتفها يرن ولا تجيب، راودها الشك بخصوص ذهابها إلى منطقة “المساعدات الأمريكية” في جنوبي رفح.
تكمل “أجابني أحدهم في المرة الأخيرة ليقول أمك أصيبت، سقط الهاتف من يدي فتلقفته جارتنا وهنا سمعته يقول إنها استشهدت، أخبري ابنتها بهدوء كي لا تنهار”.
كان أسوأ يوم في حياة ملاك -بحسب وصفها-، وهي تشهد فقد أحبتها واحدًا تلو الآخر، نقص عدد أفراد أسرتها من تسعة إلى سبعة، بدأت بأبيها الذي لم يحتمل جوع أطفاله وحاجتهم للأغطية والملابس، راح لجلبها من منزلهم في شرقي خانيونس، فباغته رصاص الموت الإسرائيلي ولم يكتف.
عن أمها تقول “كانت ماما تحاول بكل طاقتها أن توفّر لنا الطعام. لم يكن في البلد شيء نأكله، ولا جمعيات قادرة على المساعدة، كانت تبذل كل ما تستطيع من أجلنا. لكن القدر لم يمهلها كثيرًا”.
وصل جثمان والدتها إلى مستشفى ناصر مساء اليوم الذي قتلت فيه، وكانت إصابتها قاتلة، حيث اخترقت رصاصة جسدها من الرقبة حتى القلب، لتغدو قصة جديدة من بين عشرات النساء اللواتي قُتلن وهنّ يبحثن عن لقمةٍ لأطفالهن بين ركام الحرب.
فاطمة أبو مطلق (33 عامًا)، أم لثمانية أطفال أثقلت شظايا القذائف الإسرائيلية جسدها النحيل، أردتها طريحة الفراش على أسرّة العلاج بمستشفى ناصر بخانيونس جنوبي القطاع، بعدما كانت تسكن بساحتها كنازحة تحت خيمة مهترئة.
تخبرنا فاطمة قصّة مأساتها قائلة “خرجت أبحث عن الخبز وعدت مصابة، ظننتها محاولة للجم صوت أمعاء أطفالي الخاوية، للتخفيف من صراخهم ونظرات الحزن في عيونهم جرّاء الجوع، لكنني عدت عبئًا مضاعفًا بلا طعام وبلا صحّة”.
خلال يونيو لعام 2025، ارتفعت أسعار الغذاء بطريقة جنونية بسبب تقليل إسرائيل دخول المساعدات لغزة، حتى أصبح كيلو الطحين بـ180 شيكلًا، وهذه مصيبة بالنسبة لأم تعيل أطفالها وحدها بعدما تركها زوجها قبل سنوات، مشيرة “مرت أيام على أولادي دون طعام، وعندما تصلنا وجبة من التكية، يقسمونها بين بعضهم، نصف رغيف لكل طفل، كانوا ينامون بجوعهم”.
أما عن إصابتها، فتروي تفاصيل ذلك اليوم الذي غيّر مجرى حياتها “ذهبت إلى منطقة الشاكوش في يوم خُصص لتوزيع المساعدات على النساء. انتظرنا من الساعة السادسة حتى العاشرة، وفجأة سمعنا أصوات قنابل صوتية، تلاها غاز الفلفل، ثم بدأت الدبابات بمحاصرتنا، وانهال الرصاص كالمطر”
تزيد فاطمة: “النساء أُصبن جميعًا، وبدأنا نزحف على الأرض للنجاة، وسط الرعب وأصوات الصراخ التي ملئت المكان. بعد نحو ساعة، نقلنا بعض الأهالي إلى مكان آمن، ومن هناك أُسعفت إلى مستشفى ناصر”.
جُرحت فاطمة في الركبة والمفصل، ولا تزال الشظايا مستقرة في جسدها، لا تستطيع المشي أو القيام باحتياجاتها وحدها، أصبحت طريحة الفراش حتى في أبسط الأمور.
ما أول ما فكرت فيه لحظة إصابتك؟ تجيب الأم: “أطفالي بالطبع، وعدتهم بأن أعود لهم بالخبز فعدت بدمي، كنت على استعداد للتضحية بنفسي على ألا يناموا جائعين مجددًا، لكن رصاص الاحتلال كان أسرع وأقوى من أمنيتي ورغبتي بسد جوعهم”.

منذ بدء الحرب على قطاع غزة، قتلت قوات الاحتلال الإسرائيلي نحو 3 آلاف فلسطيني وأصابت حوالي 20 ألفا آخرين في أثناء محاولتهم الحصول على المساعدات الإنسانية -وفق تحقيق مفتوح المصدر- أعدته مؤسسة “ذا نيو هيومانتاريان”.
ووثق التحقيق ما يقرب من 200 هجوم إسرائيلي على المدنيين الفلسطينيين الذين يسعون للحصول على مساعدات بين يناير/كانون الثاني 2024 ونهاية يوليو/تموز 2025، إلى جانب عدد من الجرائم الأخرى المرتبطة بإطلاق النار على المواطنين قرب مواقع توزيع المساعدات، خصوصا بعد بدء عمل “مؤسسة غزة الإنسانية” المدعومة من الولايات المتحدة وإسرائيل في أواخر مايو/أيار 2025.
الطبيب محمد شموط، أحد العاملين في قسم الطوارئ بمستشفى ناصر، يصف ذلك اليوم قائلًا: “تدفقت علينا طوابير من النساء الجريحات، كان المشهد مأساويًا بكل معنى الكلمة، الإصابات تنوّعت بين طلقات نارية مباشرة، وشظايا قذائف، وحالات بتر وتشوهات وحروق، معظمها ناتج عن استهداف متعمد.”
ويشير الطبيب إلى أن النساء بين 18 و40 عامًا كنّ الفئة الأكثر استهدافًا، من بينهن نساء حوامل، مضيفا “تعاملنا مع حالات مؤلمة لأمهات أُصبن مع أجنتهم، وفي أحيان كثيرة تحت القصف كانت الأم تُستشهد فنضطر لإجراء عملية طارئة لإنقاذ الجنين. مرات كثيرة حاولنا أن ننتزع الحياة من رحم الموت.”
يرى شموط بأن النساء تعرّضن لاستهداف متعمّد أثناء توزيع المساعدات، كما هو الحال بالنسبة للرجال والأطفال أيضًا، لكن ما كان لافتًا أعداد النساء اللواتي استهدفن في ذلك اليوم، فقد استقبلت المستشفى العشرات بإصابات متفاوتة.
وفيما يخص الإمكانيات، يؤكد شموط أن الطاقم الطبي يعاني من نقص حاد في الأدوية والمستلزمات وحتى المواد الغذائية بسبب الحصار الإسرائيلي، ما جعل التعامل مع الأعداد المتزايدة من الجرحى مهمة شبه مستحيلة.
ووفق مؤسسة “ذا نيو هيومانتاريان”، فقد بلغ العدد الإجمالي للشهداء نتيجة الهجمات الإسرائيلية على طالبي المساعدة 2957 شخصا على الأقل خلال الـ23 شهرا من الحرب، في حين أصيب ما لا يقل عن 19 ألفا و866 شخصا، أي نحو 4.6% من أكثر من 64 ألفا و600 شهيد منذ بداية الحرب الإسرائيلية على غزة، وأكثر بقليل من 12% من إجمالي المصابين.
الكلمات المفتاحية: الدم, نساء, حكايات, خبز, غزة, المساعدات, الحرب, طوابير.