نشرت مجلة “بوليتيكو” مقال رأي لأستاذ السياسة الدولية في مدرسة فليتشر بجامعة تافتس دانيال دبليو. درينزر، ناقش فيه تغير المواقف الأمريكية من إسرائيل، وأن الأخيرة ستكتشف في مرحلة ما أنها تحمل الكثير من ملامح نظام الفصل العنصري السابق في جنوب أفريقيا.
وأشار الكاتب، وهو باحث يهودي، لاجتماع مفتوح حضره هذا الشهر مع النائب الديمقراطي عن ولاية ماساتشوستس، جيك أوتشنكلوس، حيث كان يتوقع توجيه أسئلة للديمقراطي المعتدل حول محاربته دونالد ترامب بصورة أقوى. وفي الواقع، كانت كلمات أوتشنكلوس الافتتاحية صورة عن نقاش ديمقراطي نموذجي، بما في ذلك الدفاع عن الدستور وتنشيط الحزب الديمقراطي وإعادة فتح الحوار في أمريكا.
بمجرد تطبيق مصطلح الإبادة الجماعية على موقف ما، يصعب على الجهة المستهدفة محو وصمة العار. وستقضي إسرائيل العقود القليلة القادمة إما في صرف الانتباه عما تفعله قواتها حالياً في غزة أو في معالجتها
وبينما دارت بعض الأسئلة حول هذه المواضيع أيضاً، إلا أنها لم تكن الموضوع الرئيسي. فقد كان السؤال الأكثر حضوراً من إحدى أكثر المناطق الانتخابية ذات الأغلبية اليهودية على شاكلة: “ماذا ستفعل بشأن المجاعة في غزة؟”. ولم يكن أوتشنكلوس النائب الوحيد الذي واجه أسئلة غاضبة حول غزة في اجتماعاته.
علاوة على ذلك، أشارت الاستجابة لردوده المتكلفة والمبسطة، من أن الجوع أمر سيئ، وأن تكون مؤيداً لإسرائيل ومؤيداً للفلسطينيين لا ينبغي أن يكون متناقضاً، وتتحمل “حماس” مسؤولية واحدة لإنهاء الصراع، إلى أنه بينما كان هناك بعض مؤيدي الحكومة الإسرائيلية الحالية بين الحضور، إلا أن عدد منتقدي إسرائيل ودعم الولايات المتحدة لها كان أقل بكثير من الحاضرين.
وتساءل الكاتب: هل يجب أن يثير هذا قلق الإسرائيليين؟
ليس على المدى القصير، كما يقول، مشيراً إلى أنهم أكثر أماناً بعد الإنجازات التي حققتها إسرائيل ضد إيران و”حزب الله” وسوريا و”حماس” في غزة. وقال إن إسرائيل تتمتع الآن بنفوذ إستراتيجي وعسكري أكبر في الشرق الأوسط من أي وقت مضى في هذا القرن.
ومع ذلك، فإن الثمن الذي دفعته إسرائيل مقابل هذه النجاحات العسكرية باهظ. وقد يكون لتآكل الدعم الشعبي آثار طويلة الأمد على إسرائيل وعلاقاتها مع حلفائها الحيويين.
ولطالما تلقت إسرائيل، وبشكل دائم، انتقادات غير متناسبة حول العالم، إلا أن هذه لم تكن مهمة طوال فترة القرن الحالي، بسبب تسامح حلفاء إسرائيل في الغرب والقوى العظمى الأخرى، وحتى جيرانها العرب، في الغالب مع سياسات إسرائيل في الأراضي المحتلة. وقد منح هذا رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، حرية كبيرة في كيفية تعامله مع “حماس”. وأصبحت دورة الهجمات الصاروخية الدورية على الفلسطينيين روتينية لدرجة أن النخب الإسرائيلية وصفتها بأنها “جز العشب”. وقد تسامح المانحون والجيران إلى حد كبير مع هذا السلوك. وقد تبخر أي انتقاد بعد هجمات 7 تشرين الأول/أكتوبر. ومع فوز دونالد ترامب في انتخابات عام 2024، من المرجح أن النخب الإسرائيلية اعتقدت أنها عززت دعم أهم حلفائها في المستقبل المنظور.
ويرى الكاتب أن الموازين انقلبت في عام 2025. وهذا واضح على الساحة العالمية، وهو صحيح بالتأكيد في الولايات المتحدة أيضاً.
وتتهم عدة دول حول العالم إسرائيل بارتكاب إبادة جماعية في غزة. حتى أن بعض الإسرائيليين يستخدمون هذا المصطلح، بينما يقر إسرائيليون آخرون أخيراً بالمعاناة. وقد انتشرت صور أطفال غزة الجائعين في جميع أنحاء العالم.
وكافحت إسرائيل وحلفاؤها طوال القرن الحالي لتجنب أي مقارنة مع جنوب أفريقيا في عهد الفصل العنصري، مدركين أن مثل هذا الربط سيضر بمكانة إسرائيل في العالم. ومع ذلك، على الرغم من كل خطاياها، لم تُتّهم حكومة الأفريكانيين قط بالتحريض على إبادة جماعية. وتخاطر حكومة إسرائيل الآن بأن تُصنّف مع نظام الهوتو في رواندا والخمير الحمر في كمبوديا والصين في عهد ماو، ونعم، ألمانيا النازية.
والسؤال المطروح هو: هل لا يزال وصف الإبادة الجماعية ذا أهمية في عالم تتلاشى فيه الأعراف؟
ومهما كانت إجابتك، فمجرد إجراء هذا النقاش يشير إلى تحول كبير في البنية السياسية، وهو أمر ينبغي أن يكون مقلقاً لكل من الإسرائيليين والأمريكيين الداعمين لإسرائيل.
وقال الكاتب: دعونا نتحدث بصراحة عما يحدث حالياً في غزة، فالأدلة المرئية على الموت والدمار الوحشي لا مفر منها، وهو ما يشير لدور إسرائيل وذنبها الواضح في معاناة الغزيين. وكما أوضح أليكس دي وال، زميل الكاتب، أن “التجويع يستغرق وقتاً، لا يمكن للسلطات تجويع شعب بالصدفة”.
ولمصطلح “إبادة جماعية” معنى مبالغ فيه في السياسة الدولية، ولكنه ليس غريباً عن وصف ما تفعله إسرائيل اليوم في غزة. وبغض النظر عمن بدأ هذا الصراع، فإن الحكومة الإسرائيلية مذنبة بأفعالها في غزة حالياً.
علاوة على ذلك، تتحدث الحكومة اليمينية الإسرائيلية الآن علناً عن تهجير سكان غزة بالكامل لإفساح المجال للمستوطنات اليهودية، التي تمثل جوهر الاستعمار الاستيطاني.
وقد أثار هذا الاقتراح قلق اليهود الإصلاحيين والمحافظين حول العالم. حتى بريت ستيفنز، وهو مؤيد قوي لإسرائيل، حذر من أن مثل هذه الخطوة ستكون “خطأ فادحاً”.
ومع تدهور الوضع الإنساني في غزة من سيئ للغاية إلى أسوأ يصل إلى مستوى محاكم جرائم الحرب، تغيرت الآراء العالمية والأمريكية بلا شك تجاه إسرائيل. وهذا واضح من موقف مجموعة القادة الغربيين الذين دعوا إسرائيل إلى اتخاذ إجراء لوقف ما يسميه دونالد ترامب نفسه “مجاعة حقيقية” في غزة: رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين، والقادة المنتخبون في بريطانيا وفرنسا وألمانيا، وحاكم ولاية بنسلفانيا الديمقراطي جوش شابيرو، وثاني أقوى ديمقراطي في مجلس النواب كاثرين كلارك، والنائبة الجمهورية مارجوري تايلور غرين.
قاعدة الدعم السياسي الرئيسية لإسرائيل في الولايات المتحدة لم تعد تعتمد على اليهود بل على المسيحيين الإنجيليين
وتشير تقارير متعددة إلى أن قاعدة ترامب المؤيدة لشعار “لنجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى” (ماغا) قد تأثرت بأفعال إسرائيل في الأراضي المحتلة، وبدأت تشكك في المساعدات الأمريكية المقدمة لها. ووفقا لصحيفة “فايننشال تايمز”، قال ترامب لمتبرع يهودي: “شعبي بدأ يكره إسرائيل”.
حتى النائب الأمريكي ريتشي توريس من نيويورك، وهو أحد أشد المدافعين عن إسرائيل في الجانب الديمقراطي، غيّر نبرته بشكل طفيف، محذراً من أنه “إذا كان هناك تآكل في الدعم لإسرائيل في الولايات المتحدة، فهذا ليس شيئاً ينبغي للحكومة الإسرائيلية أن تتعامل معه باستخفاف”.
ويقول الكاتب إن تحذير توريس في محله. فمن نواحٍ عديدة، يتخلف استياء النخبة من أفعال إسرائيل في غزة عن الاستياء الشعبي المتزايد، مستشهداً هنا بنتائج استطلاعات الرأي الأمريكية والعالمية من بيو وغالوب ويوغوف، التي تُظهر أن الرأي العام العالمي تجاه إسرائيل قد تدهور في السنوات الأخيرة.
ومع انتقاد كل من النشطاء التقدميين من اليسار، ودعاة “لنجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى” من اليمين، لعدوانية إسرائيل، سيكون من الصعب عليها إقناع الكونغرس تقديم المزيد من الدعم. فبمجرد أن تُنتقد فيه دولة ما بنظام الحزبين، ينهار سور التحريم ضد المزيد من الانتقادات.
ويرى الكاتب أن إسرائيل هي ضحية لنجاحها، حيث لم تر أي داع لرد متناسب في غزة. ويعتقد أن الجهود المبذولة لخلط انتقادات إسرائيل بمعاداة السامية ستكون أقل نفعاً في عام 2025 مقارنة بعام 2024. فبعد أكثر من عام من هجمات 7 تشرين الأول/أكتوبر كان بإمكان المدافعين عن إسرائيل الإشارة إلى ارتفاع معدلات معاداة السامية في الولايات المتحدة كوسيلة لتجاهل الانتقادات العامة. وقال إن استحضار إدارة ترامب ومؤيديها المستمر والمبالغ فيه لمعاداة السامية جرد الاتهام من أهميته.
ويتساءل: هل لهذه الرمال السياسية المتحركة أهمية؟ هذا يعتمد على من نتحدث عنه. بالنسبة لمجتمع يهودي أمريكي ممزق بالفعل بسبب أفعال إسرائيل خلال هذه الحرب، فإن التحول الأخير في المواقف العامة سيؤدي إلى بعض الكلام المزعج، وبصفته باحثاً يهودياً سيجد صعوبة في مناقشة الموضوع. ومع ذلك، فإن غضبه يتزايد من حكومة إسرائيل على أفعالها المذنبة، ومن اليهود الذين استخدموا معاداة السامية كسلاح لقمع أي نقاش موضوعي حول حرب غزة. وهو متأكد تماماً من أنه ليس اليهودي الوحيد الذي يشعر بهذه الطريقة.
وبالنسبة لإسرائيل، ستكون الآثار متباينة. فما دامت إدارة ترامب لم تنقلب عليها تماماً، وهو سيناريو مستبعد، فمن المرجح أن يعتقد نتنياهو أنه قادر على تحمل سهام النقد دون أن يعاني كثيراً من العواقب الحقيقية.
وهذا لأن قاعدة الدعم السياسي الرئيسية لإسرائيل في الولايات المتحدة لم تعد تعتمد على اليهود بل على المسيحيين الإنجيليين.
وإذا استمر الدعم الأمريكي، مهما بلغ من ضراوة، فلن يقيد حرية إسرائيل في متابعة الحرب في غزة كثيراً. بالنسبة لدولة معتادة على الانتقادات غير المتناسبة من المجتمع الدولي، فإن تكاليف الانتقادات الأكثر حدة تتضاءل مقارنة بالفوائد المتصورة لسحق “حماس” في غزة.
وتكمن المشكلة الأكبر في المدى المتوسط إلى الطويل، حيث ستواجه إسرائيل بعض المخاطر الحقيقية من كسب الحرب على الأرض وخسارة حرب الكلمات. ومن المحتمل أن يغير ترامب موقفه إذا تزايد غضب حركة “لنجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى” من التدخل الأمريكي في الشرق الأوسط. وتجدر الإشارة أيضاً إلى أنه مع مرور الوقت، سيشعر عدد متزايد من الأمريكيين بتراجع تعلقهم بإسرائيل. وتشير استطلاعات الرأي إلى أن دعم إسرائيل، حتى بين الشباب الإنجيليين، قد انخفض بشكل حاد.
ومع تحول الرأي العام ضد إسرائيل، سيصبح من المقبول سياسياً، بل ومفيداً، أن يكون المدافعون عن إسرائيل أكثر صراحة في انتقاداتهم. فيما تعترف معظم دول الجنوب العالمي بالفعل بفلسطين كدولة. ومع المعاناة الأخيرة، تتخذ دول غربية مثل أستراليا وكندا وفرنسا والبرتغال وبريطانيا خطوات في هذا الاتجاه أيضاً. كما أن ألمانيا، المدافع الأشد ولاء لإسرائيل في أوروبا، مترددة أيضاً. ومع حذو دول أخرى حذوها، سينخفض عدد الدول التي ترفض الاعتراف بدولة فلسطينية إلى حفنة.
وبمجرد تطبيق مصطلح الإبادة الجماعية على موقف ما، يصعب على الجهة المستهدفة محو وصمة العار. وستقضي إسرائيل العقود القليلة القادمة إما في صرف الانتباه عما تفعله قواتها حالياً في غزة أو في معالجتها.
وقد يبرر الإسرائيليون ذلك بأنه في عالم تتآكل فيه الأعراف، لن يكون للخطاب العدائي أهمية كبيرة. ومع تراجع الولايات المتحدة عن التركيز على حقوق الإنسان، قد تُقرر قيادة إسرائيل التعايش مع الافتراءات. إلا أن تآكل الأعراف يؤثر سلباً على إسرائيل. إن عالماً أقل اهتماماً بحقوق الإنسان ومعايير السيادة يمكن إسرائيل من فعل ما تشاء في غزة، ولكنه يعطي أيضاً جيرانها الفرصة لمعاملتها بالمثل.
سيكون أسوأ سيناريو لإسرائيل أن تجد نفسها في نفس موقف جنوب أفريقيا في فترة الفصل العنصري في ثمانينيات القرن الماضي
وسيكون أسوأ سيناريو لإسرائيل هو أن تجد نفسها في نفس موقف جنوب أفريقيا في فترة الفصل العنصري في ثمانينيات القرن الماضي.
ولطالما قاومت الولايات المتحدة الضغط على حكومة جنوب أفريقيا البيضاء، ولكن في عام 1986، تجاوز الكونغرس حق النقض الذي منحه رونالد ريغان، وانضم إلى المجتمع الدولي في فرض عقوبات على بريتوريا. كان الجنوب أفريقيون معزولين دبلوماسياً وغير قادرين على المشاركة في الألعاب الأولمبية وغيرها من الأحداث الرياضية الدولية. وقد يواجه الإسرائيليون تهميشاً مماثلاً. ومن المرجح أن يجد الأكاديميون الإسرائيليون أنفسهم محرومين من حضور المؤتمرات والندوات الدولية. وسيتوقف السياح عن السفر إلى إسرائيل، وسيجد الإسرائيليون صعوبة أكبر في السفر إلى أي مكان آخر دون جواز سفر ثان. ستظل إسرائيل قائمة، لكن سكانها لن يُرحب بهم في أي مكان خارجها.
بعد مرور ما يقرب من عامين على هجمات 7 تشرين الأول/أكتوبر، لا شك أن إسرائيل أكثر أماناً، لكن الثمن كان باهظاً، وسيزداد ارتفاعه.
فبعد أن فرضت الولايات المتحدة عقوبات، لم يدم نظام الفصل العنصري في بريتوريا أكثر من خمس سنوات. وإذا ازداد العداء العام الأمريكي لإسرائيل، ما أدى إلى تحول في سياسة الحكومة، فقد تكون أيام إسرائيل معدودة بالمثل.
الكلمات المفتاحية: إسرائيل, الفصل, وطن, العنصري, 105.F.M, جنوب, بوليتيكو, أفريقيا, حققت, مكاسب ضد أ, عدائها, لكنها متهمة, بالإبادة ولن تفر, سيناريو, غزة, نظام.