في الوقت الذي كانت وزارة التربية والتعليم تعلن نتائج الثانوية العامة، لطلبة الضفة الغربية ولعدد قليل من طلبة فلسطينيون يقيمون في الخارج، كان طلبة قطاع غزة الذين حرموا للعام الثاني على التوالي من تقديم الامتحانات بسبب ظروف الحرب، منهكين في مشاغل الحياة اليومية المريرة، ويتحسرون على سنوات العمر التي ضاعت بعيدا عن مقاعد الدراسة.
وكباقي أيام الحرب السابقة، كانت عوائل من هم في طور طلبة الثانوية العامة في قطاع غزة، تستهل يومها بتوزيع الأعمال المنزلية، دون أن تعلم الكثير منها أن صبيحة الأحد هو اليوم المخصص لإعلان نتائج الثانوية العامة، وهو يوم كان في الماضي مليئا منذ بدايته بالترقب، فالعائلات كانت تنتظر بشغف رسائل نصية على الهواتف النقالة، تبلغها بنتائج أبنائها، غير أن ظروف الحرب بدلته بالكامل.
يوم كباقي الأيام المريرة
وكان محمد صالح، لتوه قد عاد حاملا بذراعيه جالونين من الماء المخصص للشرب، تمكن بعد عناء شديد من تعبئتها من محطة قريبا للتحلية تعمل يوميا لساعات قليلة ويتكدس أمامها عدد كبير من السكان، في تلك اللحظة التي كان يصل فيها أمام مكان إقامته، كان والده وأقاربه والجيران يتحدثون عن نتائج الثانوية وهو خبر راج لبعض من الوقت كأخبار القصف ودخول المساعدات، تابع معهم هذا الفتى الحديث، وبحسرة ممزوجة بالإرهاق من العمل الشاق الذي أنهاه لتوه عائدا بمياه الشرب قال “كنت بحلم بيوم نتائج الثانوية العامة”، وأضاف بعد التقاط أنفاسه “كل حاجة راحت، مستقبلنا وتعليمنا وحياتنا كلها خوف بخوف”.
ويستذكر محمد أيام الدراسة السابقة التي توقفت في اليوم الأول للحرب، بعد أن أمضى شهرا في انتظام دراسته في الصف الثاني الثانوي القسم العلمي، ويقول من يومها ما أخذت ولا درس ولم أفتح كتابا، حتى أن كتبه وكتب أشقاءه الأصغر عمرا، أحرقتها والدته في موقد النار لتجهيز الطعام، بعد أن اضطرت الأسر الغزية للعودة لهذه المواقد بسبب نفاذ غاز الطهي.
طلبة قطاع غزة مثقلون بالهموم وكتبهم باتت وقودا لطهي الطعام
وحين عاد بالذاكرة، تحدث لـ”القدس العربي” عن أحلامه، فقد كان يأمل في التفوق والحصول على منحة دراسية في الخارج، كان يحلم بالسفر والتعليم، قبل أن تحطم الحرب أحلامه، ويقول “بدل المدرسة أصبحنا إما نصف في طوابير المياه أو طوابير المساعدات”.
وتحدث هذا الفتى عن حياة الحرب، فبعد أن كانت أسرته تقطن منزلا به ثلاث غرف نوم، باتت تقطن حاليا في غرفة واحدة في منزل جده، فالمنزل دمر كمربع سكني كامل في قصف جوي إسرائيلي استهدف شمال مخيم النصيرات، وقال وهو يتحدث عن خطط عقد امتحانات الكترونية لهم، “ما في مجال ولا في ظروف مهيأة لا للدراسة ولا للتقديم”، وأضاف “وين أذاكر بين ثمانية أفراد داخل غرفة واحدة، وصوت القصف والطائرات لا ينقطع”.
وبالشكل الطبيعي لم تفتح المدارس أبوابها أمام طلبة غزة منذ بدء الحرب الإسرائيلية يوم السابع من أكتوبر 2013، وحرمت الحرب نحو 800 ألف طالب وطالبة من كافة المستويات من التعليم، وقد أدت إلى استشهاد الآلاف منهم، وحسب الأرقام فإن الهجمات الإسرائيلية تسببت في إحداث تدمير كلي وجزئي طال 360 مؤسسة تعليمية ما بين مدرسة وجامعة، تشكل ما نسبته 80% من مؤسسات التعليم في غزة.
أحلام ممنوعة
وعلى مقربة من المكان، تحدث رجل يقطن في منطقة تجمع خيام عن ابنته التي بكت بحرقة، عندما سمعت بصدور النتائج، وهو أمر شابه ما أصاب تلك الفتاة وتدعى ربا، حين بدأ طلبة الضفة بالتقدم للامتحانات، فهي للعام الثاني على التوالي تحرم من ذلك.
بصعوبة وافقت هذه الفتاة على الحديث، كانت بين كل جملة وجملة يسكت لسانها عن الكلام، ولا تسكت عيونها عن ذرف الدموع، وكغيرها قالت “كنت بحلم بالتخرج والدراسة في الجامعة”، وتابعت هذه الطالبة المتفوقة التي نزحت أسرتها من مناطق العمليات العسكرية البرية “مستقبلنا تحطم، حتى لو انتهت الحرب وين الجامعات إلي بدنا ندرس فيها، كلها مدمرة”، وقالت إنها كانت تحلم بذلك اليوم الذي تعلن فيه النتائج، وقد زينت منزلها وأعدت أسرتها الحلوى، كما فعلت في يوم نجاح شقيقها الذي يكبرها بثلاث سنوات، قبل أن تقلب الحرب ظروف الحياة رأسا على عقب.
وبالعادة كان سكان غزة قبل الحرب يعيشون أجزاء الفرح، فتطلق أسر الناجين الألعاب النارية، وتبدأ الزغاريد وأغاني الناج، لحظة الإعلان عن النتائج تفج من المنازل، لكن الحرب غيرت الظروف، ولم يعد يسمع سوى صوت المدافع والطائرات، ولم تعد الأسر التي كانت تقدم أطيب الطعام والحلويات تملك أفضلها حالا سوى كسرات من الخبز أو طعام العدس.
وحرمت الحرب هذا العام نحو 40 ألف طالب ثانوية عامة من الامتحانات، بالإضافة إلى عدد مماثل حرم العام الماضي، وفي غزة تحولت ما تبقت من مدارس لم تدمر، وغير مشمولة بمناطق العمليات البرية، إلى “مراكز إيواء”، تمتلئ بعشرات آلاف النازحين، فيما انهمك طلبة الثانوية العامة في القطاع بأعمال شاقة يومية، لمساعدة أسرهم على العيش في هذه الظروف، فمنهم من انتقل لسوق العمل رغم قلته، والأغلبية يشاركون في الأعمال المنزلية، بعد أن تركوا التعليم مجبرين.
هذا وقد أعلنت وزارة التربية والتعليم الفلسطينية، الأحد، نتائج الدورة الأولى من امتحانات الثانوية العامة للعام الدراسي 2024-2025، وقال وزير التربية والتعليم العالي أمجد برهم، خلال المؤتمر الصحافي الخاص بإعلان النتائج، “إن الموسم جاء في ظل استهداف غير مسبوق للمنظومة التعليمية في قطاع غزة”، لافتا إلى أن الحرب أزالت 27 مدرسة بشكل كامل، وأدت لاستشهد أكثر من 16 ألف طالب ونحو 750 معلما.
وحين تطرق إلى مشكلة طلبة قطاع غزة من مواليد 2006 و2007، الذين حرموا من الامتحانات العام الماضي والحالي، أكد الوزير الفلسطيني التزام الوزارة بتمكينهم من التقدم للامتحانات قريبا، وقد دعا الطلبة وذويهم إلى عدم المبالغة في مظاهر الفرح، تقديرا لأهل غزة.
الكلمات المفتاحية: أشرف الهورالثانوية العامةالحرب في غزةطلبة قطاع غزة.