خاص إذاعة صوت الوطن – شيماء ناصر الدرة
في غزة، التي تعيش على وقع المجازر اليومية، باتت مشاهد تشييع الأطفال والنساء والرجال مشهداً عادياً، لكنه لا يقلّ ألماً وفاجعة في كل مرة. لكن خلف هذا المشهد، هناك قصة أخرى لا تقل وجعاً: آباء يعودون وحدهم من تحت الركام، بلا أبنائهم، يحملون وجعاً لا يقال، وذكريات تحاصرهم كحطام لا يُرمم.
في هذا التقرير الخاص، تنقل لكم إذاعة “صوت الوطن” وجع الآباء الذين أصبحوا “يتامى الأبناء”، في مشاهد تُكسر فيها كل الثوابت، وتُهزّ فيها أركان الرجولة بصمت لا يعرف الانكسار إلا من الداخل.
كانوا العزوة والقوة والملجأ لآبائهم حين يضعفون، وكانوا سندًا وعصًا يتوكؤون عليها بعدما مرّ العمر. وفي لحظة غادرة، تنتهي القصص والأحلام على يد الاحتلال الإسرائيلي، ويظل الآباء وحدهم يؤمون صلاة الجنازة على فلذات أكبادهم، وهم في ثبات مهيب، يهيلون التراب على قبورهم، ويحسبون الدمع في عزائهم.
ما أقسى أن يكون الناجي الوحيد هو الأب، يعود بدونهم، فراغ يملأ حياته. ينظر إلى صوتهم القادم من الذاكرة: مشاهد ولادتهم، اختيار أسمائهم، مشيهم، ركضهم في طفولتهم، ذهابهم إلى المدرسة، وانتظاره لهم حين يعودون، سهره معهم، طموحاتهم وأحلامهم… كلها رحلت معهم. لم يتبقَّ له سوى حمل ثقيل من الذكريات، وألم يأكل روحه.
دفعة واحدة
لم يتوقع الحاج إبراهيم أبو مهادي أن يتلقى نبأ استشهاد أبنائه الستة دفعة واحدة، بعدما استهدفهم الاحتلال بسبب عملهم الإنساني والإغاثي. يقول بقهر:
«لم يحدث في التاريخ أن يقوم جيش باستهداف المدنيين بهذا الشكل. أبنائي حصلوا على شهادات مرموقة، ومع تعطل الأعمال في الحرب، اتفقوا على إنشاء مشروع لإطعام النازحين والفقراء بتمويل من مؤسسة بريطانية، فكيف يُستهدفون بهذه السهولة؟ وكيف يُعاقبون على عملهم الإنساني؟»
ويضيف: «كانوا أُنس سنوات عمري التي مضت، فأنا كنت وحيد أبي، ولم أعش معنى الإخوة، ولم أعرف من الأسرة سوى الأب والأم، إلى أن أنجبتهم زوجتي، التي كانت تصفهم دائمًا: “هم ملح حياتنا وسكرها”. حتى انقلب مرارة فقدهم سمًّا دستْه إسرائيل في حلقي وحلقها».
فاجعة الرحيل
يتحمل ثقل الرحيل وحده بمرارته وقسوته وحزنه الدفين. رغم وجعه وانكساره، يحاول رامي الخالدي التماسك أمام فاجعة رحيل “العزوة والسند”: عبد وأحمد ومحمد، الذين فقدهم واحدًا تلو الآخر، وكأن القدر يُمزقه بالتقسيط.
يقول بنبرة كسيرة: «لم أنظر إلى أشلاء أبنائي داخل الأكفان، بل إلى صورهم التي تحركت أمامي، ضحكاتهم، خطواتهم العائدة من المدرسة، أناقتهم في الأعياد. كبروا وأصبحوا سندًا أتوكأ عليه، واليوم أتمنى فقط أن أجد جثمان أحمد ليدفن بجوار إخوته».
الفقد بالتقسيط
أما قلب والد الشهداء، أبو نضال أبو ركبة، فقد ظل يحتضر بالتقسيط. ودّع “واسطة العقد” محمد (أبو زهري) بعد أن انكسر قلبه على ابنه عماد الصغير، ثم نضال الأكبر. انفرط العقد، ورحلوا جميعًا. تركوه يتيمًا في مدينة تنقلب فيها المفاهيم، فيصبح الآباء في السبعين من عمرهم “يتامى الأبناء”.

ستبقى صورة أبو نضال أيقونة للقهر والوجع. وجهه المرتجف وصرخته الصامتة تقول للعالم ما لم تقله نشرات الأخبار: في غزة، هناك آباء يدفنون أبناءهم بأيديهم، ويكتمون وجعهم لأن لا وقت للبكاء؛ فالحرب لا تنتظر الدموع.
هؤلاء الآباء لا يبحثون عن تعاطف عابر، بل عن عدالة مفقودة، وعن حياة كريمة لمن تبقى من أبناء هذا الشعب. فالمجزرة لا تُقاس بعدد الشهداء فقط، بل بعمق الجراح في قلوب من نجا.
الكلمات المفتاحية: غزة, الابادة الجماعية, فقدان الأبناء, الوجع.