غزة- إذاعة صوت الوطن/ تقرير ابتسام مهدي
قال طاقم الدفاع المدني «شاهدناه يحترق حيًا حتى الموت، كان يتلوى من شدة ألم النيران التي أحرقته، كنا واقفين أمامه لا نبعد عنه سوى بضعة أمتار، ونحن عاجزون عن إطفاء الحريق في زميلنا، مع أن أساس عملنا هو إخماد الحرائق».
وبملامح تملؤها الحزن يستذكر الدكتور محمد المغير، أحد أفراد طاقم الدفاع المدني، أبرز المواقف الصعبة التي مر بها، ويضيف: «كنا في مهمة يوم 13 فبراير 2024، انسحب الجيش من منطقة الرمال، ووردت لنا عدة مناشدات، تحركنا إلى المنطقة، وأثناء إخلاء أحد الشهداء، فاجأنا الجيش باستهداف سيارتنا، حاول أحد أفراد الطاقم سحب إحدى السيارات، ليُطلق عليها الجيش قذيفة مدفعية، فاحترقت أرواحنا مع احتراق زميلنا والسيارة، أصبحت أنا والزملاء كمجانين».
ليتنفس المغير مدير الإمداد والتجهيز في الدفاع المدني بصعوبة خلال تذكره ما حدث، «حاولنا التقدم لإخماد الحريق، لكن الجيش أطلق علينا وابلًا من الرصاص والقذائف المدفعية، وقفنا عاجزين بينما زميلنا يحترق، كان شعورنا صعبًا لدرجة أن قلوبنا كادت تنفطر، كررنا محاولات العودة من طريق مختلفة، لكن الجيش كان يستهدفنا مجددًا، استطعنا انتشال جثمانه بعد 22 يومًا من حدوث الاستهداف، لا يمكننا نسيان ذلك اليوم، ولا يمكننا تخطيه، فقد حفرت تلك اللحظة في ذاكرتنا، مررنا بالكثير من المواقف الصعبة، ولكننا لم نتوقف عن تقديم الخدمة، ومازلنا نواصل العمل».
الحرب لم تعطنا الوقت للبكاء
لم تكن هذه الحادثة الوحيدة التي تركت آثارها العميقة في قلب المغير، ففي 13 يوليو 2024، شهد مرة أخرى استشهاد أربعة من زملائه نتيجة استهدافهم بصاروخ استطلاع أثناء ترجلهم من سيارة الإطفاء في منطقة المواصي، يصف المغير تلك اللحظة، قائلًا: «كنت في السيارة الثانية، شاهدت الصاروخ يصيب مركبة الدفاع المدني، شعرت بالألم وكاد قلبي ينفطر، بكينا جميعًا، لكن الحرب لم تعطنا الوقت للبكاء أو لتهدئة مشاعرنا، بمجرد وصولنا، قمنا بانتشال الشهداء ونحن نبكي، ثم أكملنا مهمتنا الإنسانية».
لا تزال مواقف الفقد تحت الركام محفورة في ذاكرة طواقم الدفاع المدني، وتروي القصة التي لا تُنسى عندما استجابوا لمناشدة لإنقاذ عائلة عبد العال في تل الهوا جنوب مدينة غزة، يقول المغير: «سمعنا صوت طفلة لا تتجاوز خمس سنوات تبكي من تحت الركام، كنا نعمل بأيدينا، دون أي أدوات كانت جميعها قد دمرت بنفس الاستهداف؛ المنزل بجانب مقر الدفاع المدني، أثناء محاولة إنقاذها، وبعد أربع ساعات من العمل، من زحزحة الاسمنت الثقيل وحمل الحجارة وسحب الرمال وإزالة الركام، تمكنا من إخراجها، كان الغبار والرماد يغطيها ودموعها على خدها وبالكاد تستطيع التنفس، ما أنجزناه يعد عملًا عظيمًا، بكاء الطفلة طوال فترة الإنقاذ كان يقطع قلوبنا يفتفت جوارحنا وترتجف أيدينا وكل جسدنا».
فقدت زوجها وأطفالها
تتكرر قصص الفقد مع الصحفية ميساء جبر (36 عامًا)، التي فقدت زوجها وأطفالها في قصف مباشر.
تروي ميساء: «في 28 نوفمبر 2024، اصطحب زوجي إياد وأطفالي كنان (7 سنوات) وغيث (4 سنوات) إلى منزل عائلته في بيت لاهيا شمالي القطاع، كنت أحرص على أخذ أطفالي معي لحمايتهم، ولكن قدر الله كان نافذاً».
تتابع ميساء بحزن: «بعد نصف ساعة من استهداف المنزل، وصل جيران زوجي بسيارة إسعاف إلى المستشفى، وعرفت أن عائلتي كانت تحت الأنقاض، استشهد زوجي وأطفالي، كما استشهد 16 شخصًا من عائلته».
وأضافت ميساء: «عندما تواصلت مع الدفاع المدني، أخبروني أنهم ممنوعون من العمل في شمال القطاع، وأنهم لا يمتلكون الأدوات اللازمة لإخراج الجثث، كانت عائلتي قد حكمت عليها قوات الاحتلال بالموت، بعد منعهم طواقم الدفاع المدني من الوصول إليهم».
شهداء ولكنهم مفقودون
واضطرت ميساء لتسجيل أسماء كل من كان في المنزل ضمن المفقودين، فلا دليل على استشهادهم، ولا تسطيع وزارة الصحة تسجيلهم إلا بعد وصول الجثامين لأحد المستشفيات.
هذا حال أهل الشمال منذ تاريخ 21 اكتوبر 2024، حيث منع جيش الاحتلال الإسرائيلي طواقم الدفاع المدني من العمل في المنطقة، مما تسبب في عدم الاستجابة لمناشدة السكان لإنقاذ حياتهم بعد أي استهداف.
فوفق المغير فإن «جيش الاحتلال يقصف المنازل التي يتواجد فيها مئات الأشخاص دون أي تحذير، حيث أباد عائلات بأكملها، كما أنه يستهدف كل من يتحرك في الشوارع وما يحدث هو تطهير عرقي، ليس هذا فقط بل سياسة التجويع التي ينتهجها الاحتلال أدت إلى موت بعض المواطنين جوعًا».
استغاثات دون مجيب
ويؤكد أن الاحتلال الإسرائيلي يمنع طواقم الدفاع المدني من أداء مهامها الإنسانية في شمالي القطاع مما يزيد معاناة المواطنين، ويتألم المغير «هناك استغاثات من بعض المواطنين تحت الأنقاض يطلبون المساعدة منّا دون جدوى، 13 مركبة إطفاء توقفت عن العمل في وسط وجنوبي القطاع لعدم توفر الوقود، وهذه مشكلة أخرى نواجهها».
ليس حال شمال غزة منفصل عن باقي مناطق القطاع، ففي كل شارع وحي هناك قصة فقدان مازالت عالقة في تفكير ووجدان ذويهم ولا يمكن تخطيها، من بينهم سوزان الصوراني (30 عامًا)، التي فقدت أختها ميرفت وأطفالها في قصف مباشر آخر: «أختي كانت نازحة من غزة إلى خان يونس، ولم تتمكن من الخروج من منزل أختي إيمان بسبب تأخر السيارة التي ستقلها في 5 ديسمبر تم قصف المنزل، واستشهد 4 من أقارب زوج أختي إيمان، وابنة اختي ميرفت الصغيرة، في 8 ديسمبر، علمنا أنه تم استهداف العمارة التي كانت ميرفت وأطفالها فيها، لم نستطع الوصول إليهم إلا بعد أربعة أشهر من انسحاب الجيش، ولم نتمكن من العثور على جثثهم، بسبب عدم توفر أدوات تساعد الدفاع المدني على استخراج الجثامين، هي الأخرى سجلت اسماء من فقدتهم ضمن المفقودين».
10 آلاف مفقود
أما عن أعداد المفقودين، فيقول الدكتور محمد المغير مدير الإمداد والتجهيز في الدفاع المدني: «هناك أكثر من 70% من الشهداء الذين استشهدوا خلال العملية العسكرية الإسرائيلية في شمال قطاع غزة لا يزالون تحت الأنقاض، ومن المتوقع أن يكون العدد الإجمالي للمفقودين في كل قطاع غزة تحت الركام ما يقارب 10,000 شخص».
ويضيف المغير أن: «معظم هؤلاء المفقودون كانوا ضحايا لاستهدافات عشوائية وممنهجة من قبل الاحتلال الإسرائيلي»، منوهاً إلى أن قوات الاحتلال استهدفت طواقم الدفاع المدني، ومقراتنا ومعداتنا وسيارتنا بشكل متعمد، مما زاد من معاناة المواطنين ومنعنا من أداء مهامنا الإنسانية».
ويوضح المغير أن «طواقم الدفاع المدني استطاعت استجابة لعدد كبير من المناشدات رغم كل التحديات، حيث تعاملت مع أكثر من 87,000 نداء استغاثة، استجابت منها لـ 72,000 نداء، بينما لم تتمكن من الاستجابة لـ 15,000 نداء بسبب نقص الوقود واستهداف معدات الدفاع المدني، أو منع الاحتلال وصولنا لمكان الاستهداف وعدم الاستجابة لأي تنسيق لإجراء عملية إخلاء للجرحى والشهداء».
ويتذكر المغير: «لقد استشهد 94 من ضباط الدفاع المدني على يد قوات الاحتلال، وأصيب أكثر من 304 آخرين، ما يعادل 40% من طواقمنا قد تعرضت للإصابة، أضف إلى أننا جميعًا عشنا الفقد من خلال استشهاد أحد الأقارب وتدمير منازلنا بالإضافة إلى اللجوء والسكن في خيام مع عائلاتنا، كما تعرضت مقراتنا لموجات من القصف والدمار، وفقدنا العديد من مركبات الإطفاء والإسعاف».
ولا يجد المغير ذريعة لاستهداف جيش الاحتلال الإسرائيلي لجهاز الدفاع المدني، كون عملنا بالأساس هو عمل إنساني، وأن أخفقت في بعض الأحيان ولم نستطع الإنقاذ نجحنا في عشرات المرات.
تبخر جثامين الشهداء
ويدمي قلوب طواقم الدفاع المدني ومن بينهم المغير، أن جهاز الدفاع المدني، «رصد ما يقارب من 1,760 شهيداً تبخرت جثامينهم ولم نجد لهم أي أثر، بفعل أن الاحتلال استخدم أسلحة محرمة دولياً تتسبب في تبخر الجثامين ولم تسجل بياناتهم في سجلات الجهات الحكومية المختصة».
وشدد المغير أنه «ليس هذا فقط فهناك قرابة 8,240 مواطناً تم إخفائهم قسراً من قبل الاحتلال ولم نعلم مصيرهم حتى الآن، وكذلك وجود 2,210 جثماناً تم اختفائهم من مقابر متفرقة في قطاع غزة، وجثامين شهداء تم فقدانها من المناطق التي توغل فيها الاحتلال الإسرائيلي».
وأعاق الاحتلال الإسرائيلي حسب حديث المغير، «انتشال 7,552 مصاباً جرحوا في مناطق متفرقة في قطاع غزة، بشكل يخالف الحق في الحياة والحق في إنقاذ الروح ويخالف اتفاقيات جنيف الرابعة وملحقاتها الخاصة بحماية المواطنين، فالاحتلال رفض عمليات التنسيق لدخول طواقمنا ومنع إمدادنا بالوقود مما تسبب بصعوبة وصولنا للمكان».
ويختتم المغير حديثه مؤكداً أن «طواقم الدفاع المدني ستظل تؤدي واجبها الإنساني، مهما كان الثمن»، مضيفاً «نحن نعلم أننا معرضون للموت في أي وقت، ولكننا ملتزمون بمتابعة عملنا من أجل إنقاذ الأرواح».
الكلمات المفتاحية: مفقودون, غزة, شهداء, جثامين الشهداء, الدفاع المدني.