كتب الأسير وجدي عزمي جودة
موجة متسارعة من الانقلابات العسكرية غير الدموية والمقبولة شعبيا، تشهدها القارة السمراء في الآونة الأخيرة، بدأت في مالي وانقلاب شعب الأزواد على السلطة الحاكمة وسيطرته على شمال البلاد، مما أدى إلى انشقاق العسكريين بين مؤيدٍ ومعارض للانقلاب، الأمر الذي وضع مالي تحت خطر الانقسام إلى دولتين، إذا ما أحكم الأزواد سيطرتهم وتضاعفت قواهم.
على غرار مالي؛ تتابعت الانقلابات العسكرية في الدول الإفريقية، وتصاعدت أعمال العنف الجارية منذ ما يقارب العقد من الزمن في بوركينافاسو والنيجر، بين الجماعات المسلحة والحكومات والقوات الدولية المرابطة هناك، وتدهورت الأوضاع وفقدت السيطرة على أطراف البلاد، حتى توّجت هذه الانقلابات بانقلابٍ عسكري أطاح بالنظم الحاكمة.
ومؤخرا لحقت الغابون بجاراتها الثائرة, وقاد العسكريون انقلابا على الرئيس علي بونغو، حيث وضع قيد الإقامة الجبرية، وذلك بعد وقتٍ قصير من إعلان نتائج الانتخابات الرئاسية، التي فاز بها بونغو بما يقارب ثلثي الأصوات، فيما أدى أحد قادة الانقلاب العسكري اليمين الدستوري لقيادة البلاد خلال المرحلة الانتقالية.
بينما تحارب الشعوب الإفريقية لنيل الحرية أخيرا، وعلى أمل تحقيق السلام على يد الحكومات الانتقالية، وتأمين الحياة الكريمة للفرد والجماعة من غذاءٍ صحي وخدمات طبية وتعليمية وغيرها، لاسيما أن تلك البلاد غنية بالثروات الطبيعية ومصادر الطاقة، وتعتبر قادرة على إدارة نفسها؛ تحاول الدول الكبرى كفرنسا والمستفيدة من استمرار وجود الأنظمة التي لطالما دعمتها، لتقوم الأخيرة برعاية مصالحها في هذه الدول، بواسطة الزعامات المختارة (الكمبرادورية المحلية)، والتي تسلمت السلطة والحكم من شباك فرنسا بعد خروج الأخيرة من الباب، حيث عقدت المعاهدات ونظمت العلاقات العسكرية والأمنية والاقتصادية لتصب خيرات هذه البلاد في خزائنها، فلولا يورانيوم الغابون لما استطاعت فرنسا تصنيع القنبلة النووية، لذلك تحاول الاستمرار في دعم هذه الأنظمة ودفع دول العالم الكبرى لنبذ الثورات في الدول الإفريقية، ومحاولة تهديدها بالتدخل العسكري، وان لم يكن بقواتها بل بالدعم اللوجستي الذي تقدمه للمجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا “الإكواس” والتي هددت مؤخرا دولة النيجر بالتدخل العسكري إذا لم يتراجع الانقلابيون فيها.
هذه المجموعة والتي من المفترض أن تدعم الكل الإفريقي وتسانده، تستمد قواها من فرنسا والولايات المتحدة ومجلس الأمن، وأخيرا من الاتحاد الإفريقي، وكل من ذكر يشكل داعما أساسيا للأنظمة المنكوبة في تلك الدول، لكن هذه الانقلابات كما أطاحت بالأنظمة الحاكمة، فهي أيضا تشكل خطرا جادا على “الإكواس” بتفككها وانتهاء سبب وجودها على تلك الأرض, وهذا سبب عدم دعم “الأكواس” للانقلابات تلك.
كان الرئيس الفرنسي قد أعلن خلال زيارة لدول أفريقيا في آذار/مارس من العام الحالي بأن فرنسا ستكون محورا محايدا، وترغب في الشراكة مع الدول الإفريقية على أساس الأمن والتنمية، هذا الإعلان كشف بوضوح نية التضليل للرأي العام الإفريقي، مقارنة بواقع الحياة والسياسة التي تتبعها فرنسا على الأرض؛ من استخدام للقوة في سرقة الثروات الطبيعية على حساب شعوب القارة ومستقبلها، ساخرا من الواقع التي تعيشه هذه الشعوب، ومتجاهلا حقيقة الوضع المأساوي الذي وصلت إليه، لكن ما يحدث الآن يثبت أن شعوب هذه البلدان أصبحت متناقضة مع فرنسا، وأكثر قربا ووعيا بمصالحها ومستقبلها.
وبالتالي يمكن القول بأن فرنسا تعيش انتكاسه حقيقة في مستعمراتها ومحمياتها السابقة، في المقابل هناك تنامٍ للحضور الصيني والروسي على الأرض الإفريقية، من خلال الاستثمارات والمشاريع التطويرية، والمساعدة في استخراج الموارد الأولية بما في ذلك النفط، معتمدين على مبدأ تبادل المنفعة دون خلفيات أيديولوجية.
وفي الجانب الأخر يزعج الحضور الصيني والروسي التحالف الغربي ويهدد مصالحه في القارة الإفريقية، في مقدمتها أمريكا وفرنسا وثم بريطانيا والبرتغال، دون أن يشير ذلك أن للصين وروسيا دورا مباشرا في التخطيط لتلك الانقلابات.
لم تقف الجزائر موقف المتفرج من كل تلك الأحداث على مر السنوات، ومن المهم هنا لفت النظر إلى دورها الإصلاحي السياسي في المنطقة؛ المؤيد لدمج المعارضة في أنظمة الدول دون اللجوء إلى العنف أو الحل العسكري، حيث تعد الجزائر الدولة الأقوى في المحيط الإفريقي، وتتحرك تحت غطاء هيئة الأركان المشتركة لمحاربة الإرهاب مع مجموعة من الدول، من ضمنها مالي والنيجر وموريتانيا، إلا أن هذه الدول لم تعمل معها منذ تأسيسها، وظلت الجزائر متفردة بتصرفها وترفض التدخل الأجنبي في مالي وغيرها من الدول الإفريقية، والمقصود هنا تدخل فرنسا المفرط بالشأن الإفريقي.
تغيير كبير ينتظر خارطة المصالح السياسية والاقتصادية والعسكرية للقارة السمراء، يضمن تحسن الظروف المعيشية لشعوبها، واستغلالها لثرواتها وكنوزها الطبيعية، دون الحاجة لهيمنة الدول الكبرى عليها وسرقة مقدراتها، هذه الانقلابات التي يقودها ثلة من القادة العسكريين الشباب، يشير إلى وعيهم وتطورهم، وأن الشعوب الإفريقية أضحت أكثر تمسكا بحقوقها ونهوضا بمصالحها وثروات بلادها، وهذا التغيير قد يدفع بلدانا افريقية أخرى إلى نفض الغبار عن أحلامها وتطلعاتها، والشروع بانقلابات عسكرية جديدة، في مقدمتها السنغال وساحل العاج.
لا شك أن تلك البلدان تمر بمرحلة انتقالية قد تسودها الفوضى والتباس السياسات، ولن تكون الانقلابات العسكرية بديلا نموذجيا لنهضة هذه البلدان، إلا أن كثيرا من دول القارة الإفريقية تكاد تخلو من التعددية الحزبية والسياسية، في ظل غياب مؤسسات المجتمع المدني والنقابات، لا سيما وأن أنظمة تلك الدول تمكنت من قمع شعوبها وإطفاء رغبتهم بالحرية، فكان الجيش والعسكر هو الحل للإطاحة بالأنظمة الدكتاتورية الفاسدة والتي تدور في فلك فرنسا، فيعد الفئة الأكثر تنظيما وتسلحا نسبيا، مما يمكنه من مجابهة السيطرة الفرنسية المطلقة، وإيقاف استمرار حالة الاضطهاد والتجويع وإفقار للشعوب.
الكلمات المفتاحية: غزة.